استغلال الأزمات… ثقافة المرتدّين
د. كلود عطية*
في ظلّ ما تشهده البلاد من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية خطيرة، كان لا بدّ من مقاربة علميّة موضوعيّة لطرق المعالجة والمواجهة؛ التي تتطلّب وقفات عزّ وصبراً وحكمة وقوّة ومبادرة، للحفاظ على العقد الاجتماعيّ، المهدّد بالتفكيك الذي فرضته العصبيات الطائفية والمذهبية والعنصرية وأعمال العنف والقتل والسرقات والفوضى المتنقلة التي سبّبتها حالات الفقر والجوع وارتفاع الأسعار والغلاء المعيشي، والانهيار المالي، وارتفاع نسبة الأمراض السرطانيّة التي سبّبتها النفايات المرميّة في الطرقات والجبال والأنهار وعلى الشواطئ وفي كلّ مكان.. بالإضافة الى ما سبّبته جائحة كورونا من تغيير في التركيبة السوسيولوجية والسيكولوجية والاقتصادية والعلائقية…
لكن، وعلى الرغم من عمق الأزمة وخطورتها، كانت المواجهة سطحيّة، غير علمية، عكست الواقع الفعليّ للمجتمع وأفراده من ناحية، والواقع السياسيّ المأزوم من ناحية أخرى.
أما الأخطر من هذا وذاك، فكان أسلوب استغلال الأزمة من السياسيين والحزبيين والمثقفين المرتدّين عن الأخلاق والقيم والأفراد العاديين غير المنتمين وغير المبالين بالنتائج الكارثيّة التدميريّة على البلد.
من هذا المنطلق، كان لثقافة الاستغلال شأن كبير في توضيح صورة المواطنين والسياسيين على حدّ سواء… لكنها كانت مثيرة للجدل بالنسبة للمثقفين الذين دخلوا عالم الخيانة الإنسانية والوطنية ضاربين بعرض الحائط الضمير العلمي والأخلاقي والوطني، ودورهم الأهمّ في نهضة المجتمع وتطورّه الإيجابي…
بناء عليه، سنطرح ثقافة الاستغلال عند المثقفين المرتدّين أخلاقياً، باعتبارها سمة المتورّطين بلعبة القِيَم والمبادئ الأخلاقية، حيث يدّعي الفرد المعرفة وهو جاهل، ويدّعي الأخلاق وهو مرتدّ عنها.. هي نظرية خيانة الذّات بعدم نكرانها من أجل قضية وطنية، أو إنسانية.. والخيانة هنا ترتبط بجدليّة التربية الشخصيّة والمجتمعيّة، حيث لا ينتمي الخائن إلا إلى النصف الفارغ من الكأس، حيث يدمن على إتقان لغة التّدمير، والتّخريب، وزرع الفوضى في المجتمع، ما يؤدي إلى أمراض خطيرة تزعزع النّظام الطّبيعي للعلاقات الاجتماعية بأنواعها المختلفة…
في هذا الإطار، لا بدّ من التوقف عند نظرية الخيانة التي ترتبط أيضاً بثقافة الاستغلال. فالخيانة – كظاهرة (سوسيو– سيكولوجية): أسرية، أو عاطفية أو مهنية: عمّت الأفراد والجماعات عبر التاريخ الإنساني كله، وما من أحد من البشر إلا ومارسها أو تعرّض لها بشكل من الأشكال. وقد لخّص لنا الخيانة الكاتب والصحافي Claude Sales بهذه العبارة: نتناسى خياناتنا الخصوصية الصغرى، لأننا لا نتنقل من تجمع أو من فريق الى آخر بغرض إلحاق الأذى والضرر، بل نقوم – في الغالب – بفسخ العقود وعدم الوفاء بالعهود، في لحظات الضعف، وضغوط الأهواء، وضرورات تأثيرات لحظة راهنة قاهرة، قد لا يستوعبها المنطق الذي تمّت خيانته أو الغدر به، ولا تترك هذه الأنواع من الخيانات الاعتيادية آثاراً بعيدة المدى في الأفراد سوى تلك الجروح العميقة في النفوس الحساسة أو المتنرجسة، وتحطم غرور من آذتهم تلك الخيانة.
وعندما نتعرّض لظواهر التقلبات الأهوائية: السياسية والإيديولوجية والحزبية والتحالفات العسكرية.. فإننا هنا لا نواجه فحسب قدر أو مصير فرد مختلّ مزاجي وأهوائي، بل إننا نواجه قدر ومصير أمة بكاملها… فتكون الخيانة، من هذا المنظور، معضلة إنسانية كبرى، وسينيكية عبثية عظمى.
وعليه لا بدّ من الإشارة الى أنّ المغالاة في الطموح الفردي هي المحرك الأساسي للخيانة، بالإضافة الى العطش المفرط للسلطة – أياً كانت – ولا ننسى الرغبة الملحّة المرضية في الظهور او التسلق في السلم الحزبي مثلاً، وأحياناً لمجرد الانتقام او ردّ الاعتبار، بالاضافة الى السقوط في هوس الربح العاجل، والسعي وراء النفوذ عبر سطوة المال، او الانشداد الى المناصب بكلّ أنانية..
فمن الناحية الأخلاقية تطلق الأنانية أيضاً «على من لا يستهدف إلا نفعه الخاص، في حين أنّ الغيرية هي حب الغير وإرادة الخير له وتقديمه على النفس». ويطلق دوركهايم مصطلح الإيثار أو الغيريّة على «المجتمع أو الجماعة التي يندمج فيها الفرد كلية، ولا تكون له مصالح مغايرة لمصالح الجماعة، وفي مثل هذه الجماعة يدرَّب أعضاؤها على ترك الفردية، وتقديم الواجب والطاعة بما يحقق رفاهية الجماعة قبل أيّ اعتبار آخر».
إلا أننا هنا، لسنا فقط أمام طرح موضوع الخيانة وربطها بالتفسير العلمي للأنانية، بل نحن أمام طرح موضوع الاستغلال لهذه الخيانة وتسويقها واستهلاكها بطريقة عشوائية.. حيث نعتبر هنا أنّ أخطر أنواع الاستغلال، هو ذلك النوع من التحايل على الحق، وتزوير الحقيقة، ومن ثم حبّ التباهي والظهور بمظهر المحقّ والمظلوم والمعتدى عليه، حين تَـلوك النّخبة المرتدّة عن الأخلاق معلومات كاذبة ومشبوهة، ظاهرها الدّفاع عن فعل الارتكاب المرتبط بعقدة النقص الثقافي والمعرفي والأخلاقي وسمات القيادة المفقودة.. وباطنها تشويه صورة الآخر وإدامة الخلافات والكراهية بين المواطنين عامة، وبين أبناء المؤسسة، أو المنظّمة، أو الحزب الواحد خاصة.
في السياق نفسه، نجد أنّ خطر الاستغلال يكبر حين يُعمّم، ويُنشر، وتتناقله الأخبار، حيث تجد العلاقة بين المرسل والمتلقي من الجمهور، غير المرتبط بفعل الخيانة، علاقة تصنعها وتقودها وتفعلها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث تشجع النخب المرتدة أخلاقياً على صناعة أفلام تثير النعرات بكافة أنواعها، وتُحدث بلبلة في الوسط الاجتماعي، قد تنتج عنه أحداث عنفية غير سوية.. وقد تحقق وسائل الإعلام مآربها حين تتوافق أهدافها مع أهداف النخبة المرتدّة، فتساهم في نشر وترديد معلومات خاطئة، يتلقفها الناس الأقلّ معرفة في القضايا الوطنية، أو المجتمعية، أو المؤسسية، ويعتبرونها أخباراً صحيحة غير ملتبسة، طالما أنها صادرة عن ذوي الاختصاص والخبرة والعلم والثقافة، وأنّ معلوماتهم الموثقة بأفلام مصطنعة، أو معطيات مغلوطة دقيقة للغاية.
هذه المعلومات التي تُسوِّق لها وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، تريد التخريب والانقسام علها تجني الأموال الطائلة من المخربين والممولين لهم، فتشيع وتركّز في إعلامها على أنواع من الثقافة اللاأخلاقية التي يتبناها المثقف المرتدّ، والذي ساهم في صناعتها وإشاعتها.
أما المشكلة الأكبر هنا، فهي استهلاك هذه الأخبار عشوائيًاً وبلا تمحيص ونقد وتحليل وتفكيك لنياتها، فيتساوى المثقف المرتدّ أخلاقياً مع الشخص المستهلك العادي، إلا أنّ خطورة المثقف المرتدّ أكبر بكثير، لأنّ الفرد الذي يتقبّل الأخبار ويسوّقها من دون معرفة حقيقتها يُحطّم حياته، وإنْ كان هو نواة المجتمع، لكن، أن يتحوّل المثقف إلى مستثمر لثقافة التدمير والـتزوير والتخريب، فجريمته هنا أنه يقوم بتدمير المجتمع المنسجم مع ذاته، وتقسيمه وسحبه إلى القاع المزدحم بالأفعال الجرميّة والمجرمين العابثين بالإنسان والمجتمع… والثقافة المرتدّة هنا تحتمل السياسيين ورجال الدولة والأحزاب وأصحاب المواقع والمناصب والأكاديميين ورجال الأعمال.. فكلّ من يساهم في الترويج للإساءة فهو يسيء لنفسه ولموقعه ولثقافته ويساهم في تحويلها ثقافة مرتدّة أخلاقياً…
في هذا الإطار، تتسبّب ثقافة الاستغلال بصنع ثقافة جديدة، يمكن تسميتها بثقافة الاستهلاك، التي كرّست ثقافة سطحية، ومعلومات مغلوطة، يتبناها «المثقف المرتد» مهما كانت درجته العلمية، ويُسهم فيها ويكون فاعلًا ومبشرًا؛ ثقافة سمحت أن تتصدّر واجهة المنتديات السياسية والثقافية والاجتماعية والتواصلية والإعلامية.
ولكن، بين ثقافة الاستغلال وثقافة الاستهلاك العشوائي، قافلة من المثقفين المرتهنين لسلطة الذات المريضة المتكبّرة غير المنسجمة، أو المتزنة نفسياً وروحياً وأخلاقياً… ساهموا في تراجع العمق المعرفي والفلسفي، كما ساهموا في تشويه صورة العلم والنتائج العلمية القائمة على البحث وتقصي الحقائق، وبالتالي قاموا بطرق غير أخلاقية في تشويه الحقيقة المعرفية والإنسانية والمجتمعية والمؤسسيّة… فالأخلاق وإنْ تواجدت، تفرض على المثقف أن يبني معرفته على البحث والتدقيق في المعلومة وصحتها؛ ومن ثم تفكيكها قبل أن يتفوّه بها أو يكتبها؛ بما يُقوّي من أواصر التعايش بين نتائج العلم وحقيقة المعرفة وبناء مجتمع صحيح…
بناء عليه، لا بدّ من القول إنّ ثمّة ظاهرة منتشرة فضحتها وعرّتها وسائل التواصل الاجتماعي، ثقافة استهلاكية سطحية ومدمّرة تضع حواجز خطيرة بين المثقف الحقيقي والمجتمع؛ حين يستعين كثير من «المثقفين المرتهنين» أمام أيّ قضية خلاف أو مشكلة راهنة بجمل جاهزة، وكتابات تمّ تجهيزها، وخطابات يُثبت مستخدموها أنهم صورة أكثر بشاعة من المشكلة نفسها موضوع الخلاف… هذه الكتابات التي قد تكون مقبولة من عامة الناس، لكنها لا تُقبل حين يتلفظها من يدّعي الحكمة والعلم وثقافة الحياة…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عميد التنمية الإدارية في الحزب السوري القومي الاجتماعي.