لماذا ليبيا في عين الاستراتيجية الأميركية؟
} د. ميادة إبراهيم رزوق
تمخضت دوامة المؤتمرات واللقاءات والحوارات لسنوات عدة بين قوى ليبية متصارعة ومتنازعة على السلطة والثروة مرتبطة بأطراف دولية وإقليمية يوم الجمعة 5 شباط في اليوم الخامس لانطلاق ملتقى الحوار السياسي الليبي في مدينة جنيف السويسرية برعاية الأمم المتحدة عن تشكيل حكومة مؤقتة جديدة للبلاد بهدف إيجاد حلّ لحالة الفوضى والعنف والانقسام في ليبيا وتقود البلاد إلى انتخابات عامة تشرف عليها في 24 كانون الأول المقبل، حيث أدلى المندوبون الليبيون في المنتدى الذي تقوده الأمم المتحدة بأصواتهم لصالح مجلس رئاسي مؤلف من ثلاثة أعضاء، ورئيس مجلس وزراء، وهم محمد يونس المنفي وهو سفير ليبيا السابق في اليونان رئيساً لمجلس الرئاسة، وعبد الحميد دبيبة رئيساً للحكومة الانتقالية وهو رجل أعمال من مصراتة، وعبد الله اللافي وموسى الكوني في مجلس الرئاسة، ووفق تصريحات القائمة بأعمال مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا ستيفاني وليامز فإنه يتعيّن على رئيس الوزراء الجديد مهلة 21 يوماً لتشكيل مجلس وزاري يحظى بتأييد مختلف المجموعات السياسية، وسبق ذلك مقررات اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) التي دعت يوم السبت 23/1/2021 الدول المشاركة في موتمر برلين إلى تنفيذ ما تعهّدت به من التزامات تجاه الأزمة الليبية والتي تشمل إخراج كافة المرتزقة والمقاتلين الأجانب إلى بلدانهم، والامتثال لحظر توريد السلاح المفروض من قبل مجلس الأمن، وذلك بعد إعلان الأمم المتحدة في 23 تشرين الأول2020 توصُّل طرفي النزاع في ليبيا إلى اتفاق وقف إطلاق النار ضمن مباحثات اللجنة العسكرية المشتركة في مدينة جنيف السويسرية.
وبالوصول إلى هذه النتائج نقدم مجموعة من التساؤلات:
ـ هل كان ربيعاً عربياً تجني منه ليبيا وحدة اراضيها وسيادتها واستقلالها السياسي والاقتصادي؟
ـ هل انتهت الأزمة الليبية وانتهت معها حالة الانقسام التي تمر بها البلاد منذ أعوام أم أنها تؤول إلى عرقنة ليبيا ونهب ثرواتها؟
ـ لماذا كانت ليبيا في عين الاستراتيجية الأميركية في القارة السمراء، هل يندرج ذلك في إطار الحرب الأميركية – الصينية الاقتصادية؟
أولاً– أشادت ستيفاني وليامز بالتقدم الذي أحرزه الحوار السياسي الليبي في جنيف، وأكدت أن ليبيا حققت تقدّماً وصفته بالكبير على طريق الديمقراطية، قائلة الهدف هو إعادة الشرعية إلى المؤسسات الليبية، هل سيكون ذلك؟ ام أنه تكريس لتقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم يعود تاريخها لأقاليم الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر وفقاً للخطة الأميركية التي كشف عنها تقرير اشترك فيه جوليان برغر من الولايات المتحدة الأميركية وستيفاني كيرشناسنر من ايطاليا في صحيفة “الغارديان” البريطانية (بأن مسؤولا أميركيا وهو سباستيان جوركا مساعد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب رسم أمام دبلوماسي اوروبي على “منديل” خريطة لتقسيم ليبيا إلى ثلاث دول على أساس أقاليمها الثلاثة القديمة “طرابلس في الغرب وبرقة في الشرق، وفزان في الجنوب”، وذلك قبل أسابيع من تنصيب ترامب رئيساً في 20 كانون الثاني عام 2017 )، علماً أنّ الحديث عن تقسيم دول عربية إلى دويلات صغيرة ليس جديداً في الاستراتيجية الأميركية بل كان حاضراً بالمصطلح الأميركي (الشرق الأوسط الجديد) الذي سوّقت له واشنطن منذ عام 2006 على لسان وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس تزامناً مع العدوان الصهيوني على جنوب لبنان كتأكيد لـ (خارطة الطريق العسكرية) في الشرق الأوسط بالاتفاق بين الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والكيان الصهيوني المحتلّ، وفي العام نفسه نشر الخبير العسكري الأميركي رالف بيترز مقالاً في العدد السادس من المجلة العسكرية الأميركية بعنوان “حدود الدم” تضمن خريطة مفصلة برؤية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط موضحة التقسيم على أساس عرقي ومذهبي، في إطار إجراء عملية تغيير شاملة لمنطقة الشرق الأوسط ، وبما يكون مفتاحاً لتحقيق استقرار سياسي واجتماعي يضمن المصالح الاقتصادية الأميركية في المنطقة وفي صدارتها النفط والغاز.
ثانياً– تنتج القارة الأفريقية في الوقت الراهن 11% من النفط العالمي، بما يعادل حوالي 80 إلى 100 مليار برميل من النفط الخام، كما أنها تمتلك 10% من احتياطي النفط الخام العالمي حسب تقديرات مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية والتجارة، ويُعدّ إقليم أفريقيا الغربي الذي يضم دولاً مثل نيجيريا وتوجو وساحل العاج والكاميرون ودولاً أخرى أغنى الأقاليم على الإطلاق، ويستأثر هذا القطاع بإنتاج حوالي 70% من الإنتاج الافريقي، ويصل حجم إنتاجه الحالي9.5 مليون برميل يومياً، بكلمة أخرى أكثر من إنتاج إيران وفنزويلا والمكسيك مجتمعين، وتسمّى هذه المنطقة بعد الاكتشافات النفطية والغازية الضخمة في خليج غينيا بالكويت الأفريقية أو الجنة الجديدة لقلة عدد سكانها، وغناها الشديد بالنفط والغاز، وتعتبر ليببا صاحبة الاحتياطي النفطي المؤكد الأكبر في أفريقيا، و 2.9% من الاحتياطي النفطي العالمي المؤكد، إلى جانب أنها صاحبة رابع أكبر احتياطي من الغاز في افريقيا أو ما نسبته 0.8% من احتياطي الغاز العالمي، حيث شكل النفط المستورد من نيجيريا وأنغولا نسبة 5% من المجموع الذي استوردته الولايات المتحدة الأميركية عام 2018 أيّ ما قيمته 7.6 مليار دولار، أما حجم التبادل التجاري النفطي الأميركي الليبي فقد بلغ عام 2017 مليار ونصف مليار دولار مقابل 11.2 مليار دولار تبادل تجاري مع دول جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى مجتمعة، بالإضافة أن ليبيا حافظت على إنتاج مليون برميل نفط يومياً من أجود أنواع النفوط في العالم وأقله تكلفة خلال عام 2018 رغم واقع الاضطرابات السياسية والأمنية، لهذا لا يمكن للإدارة الأميركية أن تترك هذا الكمّ الهائل من الطاقة شبه المجانية والثروة لغيرها وعليها حفظ مصالحها جيداً وحمايتها والعمل على زيادتها تدريجياً لتأمين احتياجاتها من النفط وتنويع مصادره في ظلّ تزايد استهلاكها منه في الوقت الذي تعاني من تناقص إنتاجها النفطي، ولذلك وبرأينا ستعمل الولايات المتحدة الأميركية على إنهاء الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة والتي تشكل معضلة أساسية في استغلال هذه الموارد الضخمة وتحديداً انتشار الجماعات الإسلامية مثل القاعدة و “داعش” إلى جانب الاقتتال بين القبائل الكبيرة هناك على حدود هذه المنطقة لأسباب مختلفة منها تجارة البشر، وتجارة الهجرة، والتهريب بكل أنواعه حتى تهريب النفط، لذلك قد تكون الاستراتيجية هي فدرلة ليبيا بأقاليم ثلاثة تخضع قياداتها للمشيئة الأميركية.
ثالثاً– بدأت التقارير الأميركية تتنبه للتوغل والتمدّد الصيني في القارة الأفريقية، ففي الوقت الذي كانت تتجه أنظار الولايات المتحدة الأميركية لمحاصرة الصين اقتصادياً في مناطق نفوذها في آسيا، كانت بكين تبني شبكات الطرق والسكك الحديدية ومحطات توليد الكهرباء في دول أفريقيا من خلال برنامج منح ومساعدات مالية مقابل زيادة في حجم التبادل التجاري بين الطرفين، وقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين الصين ودول القارة الأفريقية من قرابة الصفر عام 1998 إلى 50 مليار دولار عام 2008 وفقا لتقرير صدر عام 2011 عن البنك الافريقي للتنمية، وقفز الرقم ليصل 200 مليار دولار عام 2018 ، كما أنجزت بكين أكثر من 800 مشروع في 49 دولة افريقية حتى عام2005 ، وفي الوقت ذاته أعلن تقريرا آخر لمؤسسة «AIDDATA» المعنية بمتابعة برامج المنح والمساعدات الدولية في العالم أن الصين أنفقت بين عامي 2014-2000 ما قيمته 351 مليار دولار على شكل مساعدات مالية ومنح في مشاريع تنموية زاد عددها عن 4 آلاف مشروع موزعة على 138 دولة في القارات الخمس، كما أعلنت الصين في نهاية عام 2018 عن تخصيص 60 مليار دولار لمشاريع تنموية في القارة الأفريقية، حيث ارتفعت وتيرة الاستثمار الخارجي الصيني منذ أن أطلق الرئيس الصيني السابق سياسة مغادرة البلاد عام 2005 التي دعا فيها الشركات الصينية إلى الاستثمار في مناطق ما وراء البحار، وبعيداً عن الديار، وتوجت الصين هذه المبادرة بإطلاقها عام 2016 مشروع طريق واحد حزام واحد الساعي لإعادة احياء طريق الحرير القديم، حيث كانت التجارة العالمية في القرنين الثامن والتاسع عشر تمرّ من وإلى الصين قبل انفجار الثورة الصناعية في أوروبا، يغطي المشروع الموعود 68 دولة في العالم، اي أنّ 56% من سكان العالم سيستفيدون من هذا المشروع بطريقة أو بأخرى، أو أنه يشكل ما نسبته 40% من الناتج الإجمالي العالمي مما أثار الرعب لدى كثير من اللاعبين الدوليين، وبحسب الخرائط فإنّ بعضاً من طرقه تنتهي في افريقيا، ويستثمر المشروع كما هو معلن بالبنية التحتية والتعليم والسكك الحديدية والطرق السريعة والموانئ والعقارات والطاقة والحديد والصلب، والتقديرات تشير إلى أنه سيكلف من أربعة إلى ثماني تريليونات دولار، تم تخصيص جزء من هذه الميزانية الضخمة لتنمية القارة الأفريقية، مما يدلل على إصرارها في تثبيت موطئ قدم كبيرة لها هناك. وبالتالي ومن وجهة النظر الأميركية فإن الصين تلعب دوراً خطيراً، ومن غير الممكن مواجهتها عسكرياً وخصوصاً أنّ برنامجها يقوم على أساس ربح الطرفين والمنفعة المتبادلة.
رابعاً– تعتبر ليبيا موقعا استراتيجيا مهما لقوات الافريكوم الأفريقية، فموقعها القريب من تلك المنطقة، و حدودها المشتركة مع دول مثل تشاد والنيجر الحدودية مع الجنة النفطية الافريقية يشكل نقطة مراقبة مهمة، وقاعدة استراتيجية لحماية ورعاية مصالحها.
وبالتالي فإن الموقف الأميركي وباعتبار النفط الليبي يندرج ضمن الأمن القومي الأميركي معني بالوضع السياسي والأمني في ليبيا بقدر ما يخدم مصالحه في القارة الأفريقية عموما وفي إطار الأهداف الاستراتيجية الخارجية الأميركية المعلنة بالسيطرة على النفط، ومواجهة التوسع الصيني في العالم بشكل عام وفي افريقيا بشكل خاص، مما يحتم على الإدارة الأميركية انهاء الصراع السياسي والعسكري الليبي أكثر من أي وقت مضى، ولوضع حد لشركائها وحلفائها الأوروبيين أو العرب الذين تتعارض مصالحهم باستمرار في ليبيا ما قد يعطل سير الاستراتيجية الأميركية بالنسبة للقارة السمراء.