طوني كرم مطر في ديوانه «عصافير الغرام»: مسرحة القصيدة بين الذات والأنا
} الحسام محيي الدين
بصيغة معرفية يستلهم الشاعر طوني كرم مطر مفهوم التواصل بين رجل وامرأة بعفوية مطلقة لتعالق واقعيّ أمثَل، مُشتقٍ من سوابق ما واجهته به الحياة من تجارب. ثمة من شُغِفَ هنا ليُلقي بنفسه بين قصائد ديوانه «عصافير الغرام» أملاً بأن يلائمَ شعورَهُ كثيمة انفعالية مع عصرنا المليء بالآلام والأنانية والتجارب القاسية، كيما يؤكد أنّ الحب يمكنه أن يستوعب كلّ تلك المعضلات.
يؤكد الشاعر اللبناني أنّ الاولوية قبل اكتمال النص وبعده هي للقدرة على إخضاعه للإيقاع بما يناسب فضاء جودته الدلالية كلما غصنا على كوامنه. إنه تخييل مركّز بروافد طيفية يتمثل الشعر كأعمق الأساليب وأقواها في التعبير عن ماهية الشّوق بما يلامس النسق العام للدلالات بلغة مرسومة وملامح ملموسة لا تعكس خامة هذا العاشق قصداً واختياراً وإنما انهماراً وعفواً:
الحب دفتر أيامي وبوح دمي
والوجدُ قبلةُ نارٍ وهجُها نِعَمي
والشوق جذوة ما يصحو بذاكرتي
ويستنير لظى الأحباب في الحلمِ
هي إذن الإرادة العارية لجوهر الذات، والتي تمسك بالحوار بطقسٍ قِيَميّ عميق، يكفرُ بما ليس للشكل فيه فائدة، ويرى إلى جدليةٍ مداها الأنا، في قسمات دينامية تهدم الفوارق مع تلك الذات، لتؤكد مسرَحَةَ القصيدة بينهما بكيمياء درامية.
هو محض انفتاح وقبَسٌ جوّاني ينهض عليه مطر إذ يعي حضور الشعر أكثر مما يعيه هذا الأخير عن ذاته، ليُشرعِنَ بلا شكّ طموحاً كبيراً لإحساس حداثويّ الروح، طِباقِيّ البنية، ومشتعل التجربة، يتوتر هنا ويستكين هناك. بذلك تتجرّدُ الملَكَةُ من اشتغال الصناعة وأُحجيات اللغة في حوار الذات والأنا، وتنسرح في عدم ظهور إرادة الشاعر ولا تدخُّلِهِ في القصائد لغاية ما، بل تركها منسابة بعفوية لتستكمل تجربته الشعرية المتولدة معه منذ الصغر، لكأنه الطفل الذي لم يكبر ولو بعد أربعة دواوين شعرية سابقة له. فلا ثابت، كما لا متغيّر دائماً في ممكنات المعنى الحسّي الذي يتقرّأ فيه الشاعر تفاصيلَ ما استغلق على إدراكه من علاقاته بالنساء، إذا ثبَتَتْ بأدلّة ما استذكرَ من أسمائهن: سمر، دايانا، سحر، جويل، عبير، إليانا، ليلى، وغيرهن أُخريات ممَّنْ قد يؤكِّدن بأنّ المرأة تستحقُّ الحبّ بكلّ أحوالها! إنه حتماً الذات التي لا تتغيّر هنا، ولكنه أيضاً الأنا التي تتحرك هناك، والتي ينفرطُ منها عِقْدُ الإشكاليات بوعي الوجود وأسئلة المصير عن الشخص الذي كانَتْهُ يوماً، بِلُغةٍ بلّورية صافية:
مذ جئت للدنيا
أتساءل من أنا؟
الليل زيّن ما استطاع سمائي
مخضوضرا متبسّماً لضيافتي
ما زال يسأل من أنا؟
لكن ذلك لا يمنع استشراف الأحاسيس التي تستلهم تلك الأنا المُبدعة لحركية العلاقة مع المرأة في تشكيل رومنسي وملامح هارمونية يسافرُ فيها من أناه إلى ذاته بما يتمُّ صورة الحب، مما قلّ حضوره في تجارب الشعراء الشباب اليوم. فكلما تحوّلت «أنا» العبارةُ على نفسها وضُحَ الدليل على وعي الذات، وأشهرَتْ بجرأة عن سلالة أولية من شعرية القصيدة «المطرية» التي تحرّر نفسها من تبعات الشكل إذ يتساوى فيه المقفى بالتفعيلة بطريقة تحرّرية، متعامداً مع توالد المعنى ليكرّس كلاهما قيمة وحدوية للموضوع. وخلال الذات الثابتة الغامضة المعذوذبة، والأنا المتحركة الصدى بين أعمدة الخيال يعيد مطر بناء الأمكنة والازمنة بتماسٍ تخييلي أرحَب، بعيداً من حيّزها الفعلي، فهو لا يحتاجه إذ يؤكد قدرة النص في لغته وألوان بلاغته عمقاً وتأثيراً كرافعة لنجاح الفكرة التي تنمو فيه بحزمة انفعالية من ترجمان الولع الخالص وانهماك الشغف الشعري بأنثى الريف التي تملأ عقله وقلبه بحسنها الفطري المتفوّق، ولو لم ينلْ حظه أحياناً من وصالِ الّتي تستجمُّ بين أحاسيسها بفوضى ألوان قوس قزح: حيرةً ونوراً، وجمالاً ودهشة:
يحار العقل فيك وأنت غار
يلوذ بك اللهوف المستطارُ
ولي فيك اشتياق قد تبدّى
وكم يحلو من الروض الجوارُ
هو ديوانُ امرأةٍ زاخرة السّمات، عزيزة النوال، تحمِّلُ معاناةَ مطر لجسد القصيدة بين ذاته وأناه، على مسافة قبلةٍ من وصال ودمعةٍ من حزن، لكنه يبقى متألقاً بارفضاضه الشعري عما تكشّف من هواجسه اتجاه التي قستْ عليه بوعيها الوليد لقصائده على غير حالها، فعاتب مشوقاً، محباً، على الرغم ممّا أدركَ وأدركَتْ من خفايا الأحاسيس المتبادلة:
تأبى القصائد مثل لحظك ناقدا
فمتى قرأت لترفعي أو تنصبي
من أي فردوس نزلت أميرة
فلم التغاضي أنت نجمة مركبي