المفارقة بين الأغنية الحديثة والقصة الوجيزة
} صبحي الفحماوي – الأردن*
إنّ الإدهاش هو هدف رئيسيّ من أهداف القصة الوجيزة أو القصة القصيرة جدًا، كما هو الحال في القصة والرواية. وقد ساهمت وسائل الاتّصال الحديثة في انتشار الأقصوصة، وساهمت الأغاني الحديثة في ترسيخ مفهوم الأقصوصة، أو القصة القصيرة جدًا مثلما جاء في الأشعار القصيرة للأخوين رحباني، التي تشدو بها فيروز قائلة بصوتها السّاحر:
«بأيام البرد، وأيام الشتا
والرصيف بحيرة، والشّارع غريق
تجي هاك البنت من بيتا العتيق
ويقول لها: انطريني، وتنطر عالطريق
ويروح وينساها، وتتبل بالشتي».
ننصدم هنا بمفارقة كسر التّوقع، إذ إنّ الحبيب لم يأتِ، وهذه الصّدمة غير المتوقعة للبنت، تؤثّر فينا نحن القراء أو سامعي الأغنية التي تشدو بها فيروز السّاحرة.
هكذا نفهم المفارقة. تصوروا لو أنّ البنت جاءت في موعدها، والتقت مَن تحبّ، وسارت معه في الطّريق، لكانت القصة عادية، قد لا تشدنا كما صدمتنا بذلك الموقف المؤثر، بكونه كاسرًا للتوقع.
وفي قصة مرادفة لها، تشدو فيروز بقولها:
«مرقت الغريبة، عطيتني رسالة، كتبها حبيبي، بالدمع الحزين.
فتحت الرسالة، حروفها ضايعين».
هذه القصة تصوّر فتاة تقف متلهفة على وصول رسالة لها، تنتظرها من حبيبها، يبدو أنّه قال لها إنّ الرسالة ستأتيها مع واحدة غريبة. وها قد جاءت الغريبة، ومعها الرسالة. هنا، ننتعش بمجيء الغريبة، منتظرين قراءة الرسالة التي فتحتها البنت. ولكن يبدو أن الشّاب قد كتبها ودموعه تنهمر على الرسالة. حاولت البنت قراءة الرسالة. فكانت حروفها ضائعة. مفارقة صادمة محزنة.
كثيراً ما قرأنا رسائل حب وغرام مرسلة من.. إلى فنسيناها ولم نذكرها بعد وقت. ولكننا لن ننسى هذه الأقصوصة، على الرّغم من أنّ حروف كلماتها ضائعة.
وهكذا استطاعت المفارقة المفخَّخَة في وسط الرّسالة أن تُدهشنا، وتجعلنا حتى هذه اللحظات نلهج بمحاسن القصة الرّحبانية الأنموذج.
وما دمنا في الأغاني، ولا تستغربوا اهتمامي بالأغاني، فإن مجلدات كتاب «الأغاني لأبي فرج الأصفهاني» محشوّة بالقصص، والأقصوصات، وعلى نهجه، أقول إنني لا أنسى الفنانة صباح التي ما زلتُ أطرب لكلمات أغانيها إضافة إلى صوتها الجميل وهي تشدو بأغنيتها؛ (غلطان بالنمرة) إذ تقول:
«غلطان بالنمرة …انا لا بيضا ولا سمرا…
انا حنطيّه وعندي اولاد… وعندي جوز بيسوى بلاد…
وبيتي بشارع الحمرا»
بهذه الأقصوصة القليلة السطور استطاعت صباح أن تقدّم مفارقات عدة.. أنا لستُ بيضاء ولا سمراء.. أنا متزوّجة وأحبّ زوجي الذي يسوى بلاداً.. وأنا لست جارتك.. بل أسكن في شارع الحمراء.. قالت كل هذا ومواصفات أخرى كثيرة، كسرت حاجز التوقع عند ذاك الطفيلي؛ المتكلّم بالهاتف.. فجعلتنا لا ننسى هذه القصة..
إذًا المفارقة من التّقنيّات التي نراها في الأغنية الحديثة كما نراها في القصة الوجيزة، والمفارقة كما يراها محمد أيوب هي حركة نمو وتطوّر لا توازي الواقع بل تُحلق فوقه كالظل يواكب صاحبه؛ وتنمو وتنهض على حد صراعيّ هو حد التناقضات.
ولا يتحقق البناء السرديّ في تجربة القصة القصيرة جداً إلا عبر كوّة المفارقة؛ والمفارقة هي اسم مفعول من «فارق– يفارق»، ويقال: فارق الشيء مفارقة وافتراقاً أي باينه.
أما في الدراسات الغربية فقد جاء بأنّ «المفارقة هي أن يعبّر المرء عن معناه بلغة توحي بما يتناقض هذا المعنى أو يخالفه؛ ولا سيما بأن يتظاهر المرء بتبني وجهة نظر الآخر؛ إذ يستخدم لهجة تدلّ على المدح، ولكن بقصد السخرية أو التهكم.
فالمفارقة هي فنّ قول شيء من دون قوله حقيقة؛ أي أنّنا في المفارقة نتوصل إلى فهم المعنى المقصود، وليس من خلال ما يدل عليه اللفظ؛ بل بما يكمن في اللّفظ الذي قيل من معنى لم يدل عليه القول. أي أنها تتمثّل في أوجه التّناقض والتّضاد في علاقات وأطراف نتوقع أن تكون متوافقة، وكذلك فيما يظهر لنا عكس حقيقته، حيث نرى العبث في الجد، والزّيف في الحقيقة، ولهذا تتّصل المفارقة في كثير من صورها بالسّخرية والدهشة والألم والإحساس بالفجيعة والمأساة. والمفارقة تسير عكس أفق انتظار المتلقي، فتصدمه بقفلتها المدهشة.
ويحيل عبد الله المتقي مفهوم المفارقة إلى تقنية بلاغيّة وجماليّة يكون فيها المعنى المرموز في تضاد مع المعنى الظّاهريّ. وهي تقنيّة لغويّة ذكيّة تعمل على المجاورة بين الأضداد، والالتئام بين المتناقضات، على شكل لغويّ بلاغيّ يراد به نقيض معناه الظّاهر، كأن تقول لمن لم يحسن اللّعب أنّه؛ «لاعب ماهر..».
والقاصّ لا يكتب القصّة الوجيزة من أجل التّفنن في اختيار الكلمات؛ وما تحدثه من جماليّة وشعريةّ آسرة؛ وإنما يكتبها من أجل تبليغ رسالة معينة؛ فيها حمولة معرفيّة ورؤية إلى العالم؛ حيث الخطاب القصصيّ القصير جداً بقدر ما يستحضر رونق الكلمة البليغة وجمالها، بقدر ما يغوص في باطن الشخصية كاشفاً عن أغوارها؛ مقرباً صورتها من القارئ.
*صديق ملتقى الأدب الوجيز.