قرار محكمة الجنايات إنجاز تجب صيانته…
سعادة مصطفى أرشيد*
حقق الفلسطيني في الخامس من شباط إنجازاً لافتاً، بما أعلنته المدعية العامة في محكمة الجنايات الدولية (icc) السيدة القاضية فاتوبن سودا، فقد وجدت هذه المحكمة انّ بروتوكول روما الذي تمّ التوقيع عليه عام 2002، الناظم لعملها، يسمح بفرض ولايتها القانونية على الأراضي الفلسطينية التي احتلت في حرب 1967، أيّ غزة والضفة الغربية شاملة القدس الشرقية.
سجل هذا القرار نقطة مهمة لصالح فلسطين في صراعها مع دولة الاحتلال، ومثل حدثاً سعيداً وسط أجواء سياسية لا تبدو طيّبة. هذا وإنْ كان للدبلوماسية الفلسطينية وبعض الجمعيات المحلية دور لا ينكر في تحقيق هذا الإنجاز، إلا أنّ الدور والفضل الأكبر يعودان إلى المدعية العامة، السيدة فاتوبن سودا، التي لطالما وقفت في مواجهة (إسرائيل) في دفاعها عن الفلسطينيين الذين يتعرّضون لعدوانها والولايات المتحدة واتهمتها بارتكاب جرائم حرب في أفغانستان، والغرب عامة، وتعرّضت للهجوم والانتقاد، خاصة من الإدارة الأميركية السابقة التي عرضتها للعقوبات ومنها تجميد الأصول المالية الخاصة بها في المصارف الأميركية ومنعها من دخول الولايات المتحدة، فيما هاجمتها الإدارة الجديدة عبر وزارة الخارجية التي أصدرت بياناً يعبّر عن قلق أميركا من ممارسة المحكمة صلاحياتها على العسكريين (الإسرائيليين)، فيما أضاف نتنياهو قائلاً إنّ المحكمة قد أثبتت أنها هيئة سياسية لا قضائية، وإنّ قرارات كهذه من شأنها أن تقوّض حق الديمقراطيات في الدفاع عن نفسها في مواجهة الإرهاب.
أنشئت محكمة الجنايات الدولية عام 2002 بموجب بروتوكول روما، واتخذت من لاهاي في هولندا مقراً لها، وجعلت من مهماتها محاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وجرائم الإبادة الجماعية وقتل المدنيين، والجرائم ضدّ الإنسانية، فرسالة المحكمة الأخلاقية والحقوقية أنها لن تسمح لأولئك المجرمين من أن يكونوا فوق المساءلة القانونيّة، وأن يفلتوا من العقوبة على ما اقترفت أيديهم من جرائم، عارضت بعض الدول ذات السجل الدمويّ والأسود إنشاء المحكمة، ولاحقاً رفضت التوقيع على بروتوكول روما والانضمام لها والخضوع لولايتها، وعلى رأس تلك الدول الولايات المتحدة و(إسرائيل). من شأن بسط سيادة المحكمة على الأراضي الفلسطينية، أن يضع المئات من العسكريين (الإسرائيليين) وكبار الضباط في الجيش (الإسرائيلي)، أمام المساءلة وإمكانيّة الاعتقال، ومعهم بالطبع عدد من السياسيين ورجال الأعمال وكبار مدراء الشركات من الضباط المتقاعدين، وذلك في حال سفرهم للدول الموقعة على الاتفاقية، ولعلّ هذا القرار أن يكون له أبعاده الحقوقية والسياسية التي تتجاوز ذلك بكثير فمن جانب، سيضع هذا القرار (الدولة الإسرائيلية) منذ قيامها تحت المساءلة لما ارتكبت من مجازر بحق الفلسطينيين وترحيل جماعي قسري، وهي مسائل لا تسقط بالتقادم، ومن جانب آخر، فإنّ القرار يعترف بالشخصية القانونية للدولة الفلسطينية على كامل الأرض التي احتلت عام 1967، بما فيها القدس وبالتالي فإنّ المحكمة ترفض الاعتراف بإجراءات الضمّ التي قامت أو ستقوم بها (إسرائيل) في القدس وغيرها من الأراضي. لكن الفلسطيني الحزين، قد اعتاد على أن تكون فسحة فرحه ضيقة وقصيرة، فالتجربة والتاريخ قد أخبراه أنّ البطولات والتضحيات على جسامتها، التي سفحت على مذبح الوطن، لم تأت نتائجها متناسبة مع حجمها ومدخلاتها، وأن الانتصارات إنْ لم يتمّ صونها ورعايتها وتطويرها واستثمارها في حقل السياسة الوطنية المدركة والعارفة والسائرة نحو الهدف، فإنها ستذروها الريح وتباع أو يتمّ التنازل عنها بثمن بخس، وهنا يكمن القلق، ويجدر الانتباه لصيانة هذا الربح. فالحياة هي نضال يتراكم لا مفاوضات، حسب تعبير المفاوض الراحل صائب عريقات. يكمن القلق على هذا الإنجاز في مسألتين الأولى دولية والثانية فلسطينية داخلية: دولياً انتهت ولاية السيدة القاضية فاتوبن سودا، بعد معارك ضارية بينها وبين أنصار الجريمة الرسمية وأبطال الإبادة وجرائم الحرب، استطاعت في الأيام الماضية الجهات المعادية وعلى رأسها إنجلترا هذه المرة، وبدعم من (إسرائيل) والولايات المتحدة، من تنصيب مدّعٍ عام جديد يرث السيدة بن سودا في المنصب وهو المحامي الانجلو – باكستاني كريم أحمد خان، وسارعت القنوات العبرية إلى الاهتمام والترحيب بهذا الخبر قائلة إنّ كريم خان هو الأفضل لـ (إسرائيل)، وكذلك الولايات المتحدة، وبما أنّ قرار شمول الأراضي الفلسطينية تحت وصاية المحكمة قد أصبح أمراً واقعاً، ومن غير الوارد الرجوع عنه، فإنّ الذي يستطيع أن يفعله كريم خان هو المماطلة في الإجراءات، أو وضع العراقيل أمام النظر في القضايا المرفوعة ضدّ العساكر (الإسرائيليين) والأميركان، وربما التلاعب بالأدلة، مما يفقد القرار كثيراً من فاعليته القضائية.
فلسطينياً، تتفاءل أوساط رام الله بعودة الديمقراطيين للحكم في واشنطن، ويتحدث أهل السلطة عن تفاؤلهم بالعودة للتفاوض حيث يرون أنّ أجواء الرئيس الأميركي الجديد داعمة لذلك، وفي ذلك تفاؤل مبكر في غير محله، الخشية أن يكون لذلك أثر على تفعيل السلطة، للدعاوى المرفوعة ضدّ العسكريين (الإسرائيليين)، وللتذكير، ففي الأيام الأخيرة من عام 2008، شنّت (إسرائيل) عدواناً واسعاً على غزة، استعملت فيه أقذر وأفتك ما لديها من سلاح، ونفّست عن أبشع ما تضمره من حقد ودموية ووحشية، لدرجة أصابت العالم في حينها بالذهول، سبّب العدوان دماراً غير مسبوق أصاب غزة في جميع مناحيها، مع 1285 شهيداً، 900 من المدنيين، فيما قتل 14 (إسرائيلياً)، 11 منهم عسكريون، اثر ذلك شكلت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة لجنة تحقيق، برئاسة القاضي غولدستون من جنوب أفريقيا، وقد عرفت اللجنة باسمه في ما بعد، كانت المهمة الموكلة إليها التحقيق في ما إذا ارتكبت جرائم حرب في ذلك العدوان، عملت اللجنة باجتهاد وتابعت أدق التفاصيل، استمعت للشهود، فأحصت الأدلة والبيّنات، ثم أصدرت تقريرها من قرابة 600 صفحة، أكدت فيه أنّ (إسرائيل) لم تتورّع عن ارتكاب جرائم حرب، قبل العدوان بحصارها لغزة وفرضها عقوبات جماعية على مواطنيها، وأثناء الحرب في استخدامها المدنيين كدروع بشرية، وإلقائها القنابل الفوسفورية والقذائف المحشوة بالمسامير، مع شكوك باستخدامها اليورانيوم المنضّب وغير المنضّب، احتفلت في حينه منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية بالتقرير المنصف، كذلك الأوساط الصديقة لفلسطين، ولكن المفاجأة غير السارة كانت بأن طلبت السلطة الفلسطينية عبر سفيرها في جنيف بسحب التقرير وعدم مناقشته، وقيل في ذرائع السلطة ما قيل مما لا أودّ ذكره باستثناء ما قيل بعد فترة من الزمن، بأنّ السلطة قد ارتأت في تعيين مبعوث أميركي جديد للشرق الأوسط – جورج ميتشل، أنّ الظروف مواتية للعودة للسياسة الراسخة، سياسة التفاوض، وأنّ طرح تقرير غولدستون من شأنه توتير أجواء ذلك التفاوض، الذي لم يسفر عن شيء في نهاية الأمر. نتساءل اليوم: هل إدارة بايدن في صدد إدخالنا في نسق تفاوضيّ جديد، وهل يحتاج النسق التفاوضيّ الجديد إلى تهدئة الأجواء التي لم يوترها إلا قرار محكمة الجنايات الدولية؟ هذا ما يحتاج إلى اليقظة والانتباه…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سياسي فلسطيني مقيم في جنين – فلسطين المحتلة.