حين ينعدم ملبس الفرح!
} محمد رستم*
كفاتحة أولى للكلام أقول: حين ترى البراعم تأكّد أنّ الزهور قادمة وأنّ الربيع على الأبواب فالبذرة شجرة قيد الإنجاز..
ففي المنجز الروائي الأول للكاتبة رويدة تميم «الحب حتى إشعار آخر» نتلمس أنها قدّمت المبتدأ وأودعت الخبر في طي التقدير، ويندرج المنجز تحت عباءة الرواية الاجتماعيّة مخضباً بشيء من العاطفة الرومانسيّة المفجوعة بالفقد على خلفيّة ويلات الحرب، جاءت بقالب كلاسيكي.
اتخذت الكاتبة من علاقة حواء بآدمها محوراً لعملها، هذه العلاقة المغمّسة بأسرار كونيّة وأبعاد نفسيّة وروحيّة والمتأرجحة بين مدّ وجزر منذ حكاية التفاح وتؤكّد الرواية أنّ حواء وآدمها ثنائيّة تؤثث الفضاء الإنساني حتى في أصعب الأوقات فحواء لم تكن يوماً إلّا ثاني اثنين.
هذا وقد أحالت الكاتبة صوغ فضائها الحكائي السردي إلى الأنثى (سيمازا) بطلة الرواية على اعتبار أنّ الأنثى أكثر حساسيّة ورهافة مشاعر وأكثر تأثّراً فهي الخاصرة الرخوة في عالم تمطر سماؤه دماً، وتمتلئ أرضه جثثاً، وتنز جدرانه شظايا أجساد بشريّة، فبيئة الرواية هي (سورية) الوطن الذي فقأت عيونه مناقير التطرف لمرتزقة الزمن الرديء وسارقي فرح الحياة فأودوا به إلى فتنة الحريق (سيمازا) هي بؤرة الحدث، ومعاناتها جسم المنجز الذي يشكل توثيقاً لقسوة اللحظات المستقطعة من واقع الحياة السوريّة تحت الحرب.
والرواية تحكي قصّة المحامية (سيمازا) التي تعاني من رهاب الفقد، إذ فقدت حبيبها عمر الذي أصيب (بالإيدز) عندما أجبره الفقر على إجراء عملية جراحيّة لبيع كليته وذلك كي يداوي والدته المريضة، كما فقدت أخاها الذي تناثر جسده تحت الجدار حين هدمه القصف، وبالتأكيد يأتي موت عمر وهو في ريعان الشباب، وكذا موت أخيها الطفل مؤشّراً على موت الأمل بمستقبل واعد. ولأنّها تتوق لأن تسند قلبها المفجوع بثمر الحب، فقد سُرّت (سيمازا) حين قدمت لها الحياة رشوة منتهية الصلاحيّة، فوضعت في طريقها (كرم) المقيّد بـ (فضل عمه عليه)، وبالتالي هو أسير الارتباط بابنة عمّه لكنّ كرم لا يلبث أن يتخلّص من ذاك القيد المعنوي، وحين اعتقدت سيمازا أن المستقبل قد ابتسم لها، غاب كرم عنها فقد ذهبت قذيفة برجليه وغدا مقعداً. فانكفأ عن حبه.
الرواية بوضوح هي رواية النتائج الكارثيّة للحرب حيث رصدت الكاتبة منعكساتها على مناحي الحياة كافة فقد اعتمدت لكاتبة محور الحب كرمز وكناية عن كل ما يمتّ للحياة الإنسانيّة بصلة، وحين عنونت روايتها (الحب.. حتى إشعار آخر) هي بالتأكيد تعني (الفرح، السلامة، الأمل، الرقي، التطور، الرخاء، الاستمراريّة، الثقافة والمستقبل) فأيقونات الحياة هذه تبقى في بيئة الحرب معلّقة على مشجب الانتظار حتى إشعار آخر.
لذا فقد استعرضت الكاتبة على هامش الخيط الأساس في المرويّة بعض الآثار المدمّرة للحرب (معاناة الأسر المهجّرة الفقر، البيوت المدمّرة، الخوف والرعب، كثرة الشهداء) واعتمدت الكاتبة عنونات جاءت كوقفات لمؤشّر على منحى جديد تأخذه أحداث الرواية، كما اعتمدت الحوار الداخلي (المونولوج) في صيغة الغائب لتؤكّد أن الحرب غيّبت كل شيء، إذ لا حضور للأنا في مثل هذه الأجواء القاتمة وكنقطة تحسب للكاتبة وانسجاماً مع رؤيتها فقد غيّبت المرجعيّة المكانيّة أيضاً فلم تقيّد روايتها بمكان محدد (مدينة حي قرية بيئة ما) وتركت المكان غائماً تماماً إشارة إلى غياب الوطن المعافى، مخالفة بذلك سعي الكتاب وحرصهم على ذكر أسماء أمكنة وتواريخ وشخصيات معروفة لتأكيد واقعيّة أعمالهم، فقد وجدت الكاتبة أنّ أحداث منجزها تنطبق على أيّة بقعة من وطننا (سورية) إذ يكفي أن تكون الرواية عن الحرب السورية حتى تكتسب مصداقيّتها الواقعيّة، فالحرب قد رمّدت الحياة بألف طعنة وطعنة وغدا الفقد لغة الفصول الأربعة حين عزفت أصابع الوجع على وتر الفقد. فالحرب السورية وحدها جاءت أكرم من قدور الطائي في تقديم وجبات الفجيعة لذا فقد انعدم ملبس الفرح وضلت السعادة طريقها بين ركام الدمار، وشذّ عن قتامة هذا الجو (مقهى الفرح) المكان الذي التقى فيه الحبيبان ولعلّ الكاتبة تقصّدت الاسم لتجعل من الحب كوّة أمل وكي لا تدخل الكاتبة منجزها منعطفات السياسة تجنّبت الحديث عن المؤامرة الكونيّة المقنعة بالإرهاب والتي أدت إلى اشتعال حرب البلاد، حرب الأخوة التي دهمت البلاد ذات عصف فأحرقت الأخضر قبل اليابس فجاءت الرواية تتنفس دخان الحرائق. وهنا ينفتح الشخصي على العام، إذ تغدو الخصوصيّة انعكاساً مباشراً للوضع العام، (حيث يتماهى الأنا الفردي مع الأنا الجمعي ومن خلال الغوص في ما وراء السرد للبحث عن (الميتا سرد) نتبين أن الحدث بسيط، يخلو من افتعال دهشة الغرابة. هذا وقد أحسنت الكاتبة حين نحت جهة الإبداع فأحالت بعض سرديتها إلى ما يشبه ضبابيّة الحلم ينتهي بصرخات استنكار جاءت بصيغة الاستفهام (هل أضعناهم؟ أم فقدناهم؟) هذا وقد وقعت الكاتبة في مطب الترادف في السياق السردي أي اعتماد عبارات متعددة لها ذات المدلول فبدا السرد مترامي الأرداف ص (74) وهذا ما يبطئ سير الحبكة، وبالتالي يخفت التصاعد الدرامي في حركة الحدث. ولعل الكاتبة تعمّدت أن تترك خيطا متفلّتا من خيوط حبكة روايتها فلم تخبرنا أنّ كريماً مقيّد بسلاسل ابنة عمّه قبل أنّ يقيم علاقة حب مع سيمازا. وهنا نسأل لم أقدم كريم على هذا قبل أن يتخلّص من قيده المعنوي. إن مقولة الرواية وصندوقها الأسود الذي أكّدت عليه شواغل الكاتبة هو الإدانة الصارخة لأفاعي الحرب، هذا وقد مررت الكاتبة هواجسها ومقولتها بشفافيّة من خلال معاناة أبطال مرويتها فجاءت الرواية مغسولة من غبش الرؤيا وضبابيات التيه فبدت سيمازا وغيرها من شخصيات العمل نماذج جهيرة لضحايا الحرب ولم تخرج القفلة عن المسار المؤلم للرواية إذ أرادتها الكاتبة أن تكون صادمة فجاءت بقذيفة أطاحت برجلي (كرم) مما جعله يتغيّب ثلاثة أشهر حتى يلتقي بسيمازا وليعلن انسحابه من ساحة الحب فكانت الحرب المعول الذي هدم الحلم الأخير لسيمازا وكأن الخاتمة الوجه الآخر للحرب حيث تضعك على رصيف الاحتمال المنتظر في حالة استلاب تام. كما جاءت كل دلالات الوحدات الحدثيّة التي قدّمها السرد على سكّة المؤدّى الفكري للرواية وسادنة له واتكأت الكاتبة في ذلك على السارد العليم الذي يعرف أسرار النفس وخفقات القلوب هذا وقد عمدت الكاتبة إلى استنطاق الطاقة اللغويّة الشعريّة فحاولت أن تحلّق بمنجزها على أجنحة الشعر (انزياحات، صور، استعارات) وهنا نقول، بأنّ شفافية السرد ضروريّة، على ألّا تتحول الرواية إلى ديوان شعري. ولكي تزيد الكاتبة من رتم ضجيج الحرب أوردت الكثير من المفردات الدالة عليها (جثث مؤجّلة، الهجرة إلى قلبك وطلب اللجوء، المنشقين عاطفيّاً( وعن الفضاء النصي للمنجز (صورة الغلاف) فقد أظهر تماهياً كاملاً بين مضمون العمل وصورة الساعة القديمة وبداخلها ظلال امرأة وكأن اللوحة تقول، إن مشاعر الأنثى خلال الحرب مقيّدة بعقارب الزمن حتى إشعار آخر وبدت الشخصيات مستلبة مستسلمة لقدرها استطاعت الكاتبة أن تضيء على أعماقها ببراعة وتمكّن؛ طبعاً ما ذكرناه من ملاحظات لا يفسد في إبداع الكاتبة تألقاً فقد حققت الإرضاء الجمالي، إذ استطاعت أن توجد منطقاً داخلياً يحكم سرديتها ويرتب حبكتها وفق بناء معماري متقن وحبك درامي مؤثّر وهو ما يشكل عامل جذب يشد القارئ.
* كاتب سوري