مريد البرغوثيّ شاعر جميل مثل وطنٍ مُحرَّر
عبد المجيد زراقط
عندما قرأتُ خبر وفاة الشاعر الفلسطيني مُريد البرغوثي 1944 – 14 /2 /2021)، تداعى الى ذهني قوله: «لا بأس أن نموت، والمخدَّة البيضاء / لا الرصيف / تحت خدِّنا / وكفُّنا في كفِّ من نحبّ». وتمتمت: جاء الموت، ولم يتحقق حلم شاعر الشتات الفلسطيني، في أن يعيش في وطنه المحرَّر، حياة طبيعيّة مثل باقي خلق الله، سبحانه وتعالى.
وهو، كما تفيد نماذج من شعره، كان يشعر بأنَّ الحياة في الشتات ليست حياة، فنقرأ له، على سبيل المثال قوله: «أتلمَّس أحوالي، منذ ولدت الى اليوم / وفي يأسي أتذكَّر / أنَّ هناك حياة بعد الموت / هناك حياة بعد الموت / ولا مشكلة لديّ / لكني أسأل: يا ألله، أهناك حياة قبل الموت!؟».
الحياة التي عاشها مريد البرغوثي، وجعلته يسأل الله، عزَّ وجل، ان كانت حياة، سؤاله الذي يشعُّ بإيحاءات كثيرة، بدأت منذ بدأ «زمن الخسارات»؛ فقد رضع حليب النكبة، وتخرّج في جامعة القاهرة – قسم الأدب الإنكليزي في عام « النكسة «، ومُنع من العودة الى قريته «دير غسانة»، الواقعة قرب «رام الله»، في الضفة الغربية المحتلة، فقال: «نجحت، في الحصول على شهادة تخرُّجي، وفشلت في العثور على حائط أعلِّقها عليه». تبادل الحب وزميلته رضوى عاشور (1946 – 2014)، الأستاذة الجامعية والناقدة والروائية والناشطة سياسياً واجتماعياً، في ما بعد، وتزوَّجا سنة 1970، غير أنَّ زمن الخسارات جاد بـ «كامب ديفيد»، فقالوا له: لا تكتب في السياسة، وطاردوه، فتنقل بين ثلاثين بيتاً، ورُحِّل سنة 1977، وعمر ابنه تميم لم يتجاوز الأشهر، وبقي في المنافي طوال سبعة عشر عاماً. ثم عاد الى القاهرة، ولما توفيت رضوى أقام وابنه الشاعر تميم في عمَّان.
أصدر اثنتي عشرة مجموعة شعرية، بين عامي 1972 و2018، جُمِعت في مجلدين مؤخَّراً. ونالت هذه الأعمال الشعرية جائزة فلسطين سنة 2000.
وكتب سيرة الذات والبلاد في كتابين هما: «رأيت رام الله» – 1997، التي نالت جائزة نجيب محفوظ للرواية، في عام صدورها، و»ولدتُ هناك… ولدتُ هنا» – 2009.
عاش حياته، كما قال، في «أماكن الاضطرار»، فكل الأماكن، من منظوره، بعد ضياع فلسطين، هي أماكن اضطرار، وكان يقول لنفسه: وطنٌ «الدخول إليه صعب، والخروج منه صعب، والبقاء فيه صعب، وليس لك وطن سواه»، فما العمل؟
من إجاباته: «كلما سقط ديكتاتور، اقتربت فلسطين أكثر». هذا القول يمثل موقفه من «السلطة» الطاغية، فنقرأ له: «لا ترقص للديكتاتور، إذا قطف لك نجمة من السماء، لأنَّه سيعلقها على كتفيه». بهذه اللغة الهادئة المجسّدة للرؤية في صورة حسية ملموسة موحية تم الكشف عن حقيقة الديكتاتور، وبهذه اللغة البعيدة عن الحماسة والخطابية، والتي استخدم لها مصطلحاً هو: «تبريد اللغة»، قال: «كذبت كل حكايات الأجداد عليك/ الأمنية الكبرى ليست في القمقم/ لم تُعطَ يدين لتفرك مصباحاً سحرياً ولتنام/ استيقظ كي تحلم». يلاحظ، في هذا النص القصير، التّناص مع حكاية من حكايات التراث، توهم بخلاص، وتوظيفها في سياق سردي، هادئ واضح موحٍ، تشعل إضاءاته الثنائيات والمفارقة، ويكشف طريق الخلاص الحقيقي من الواقع الذي نعيشه، وهو واقع وصفه بقوله: «نحن نعيش في قاع الليل، ولهذا عدت، بعد 13 عاماً من الصمت، بديوان أسميته: استيقظ كي تحلم». ونلحظ هذا التوظيف الخلاق للدلالة في قصيدة رثائه لناجي العلي، وعنوانها المشع بالإيحاءات: «أكله الذئب»، ولا تخفى، هنا، الإحالة الى قصة النبي يوسف، كما وردت في القراَن الكريم.
كان من أسباب الوصول الى هذا القاع سياسات «أخوة يوسف» و»ذئابهم»، «قاطفو النجوم» الذين أشار إليهم قوله آنف الذكر، الذين يصنعون اتفاقيّات، مثل اتفاقية أوسلو وما يتلوها في هذه الأيام، وهو كما يعرف الجميع كان من أشدّ المعارضين لهذه الاتفاقية.
ما يملي هذا الشعر المتميّز هو الأصوات الداخلية التي لم يكن يصغي إلا إليها، كما يقول، فهي التي تقول، وهو الذي يُصغي، وينمّي النص، ويبنيه.
وفي السرد، أصغى الى أصوات الذات والبلاد، فكتب ثنائيّته السيرية اَنفة الذكر، المتميزة، كما كتب ادوارد سعيد، في مقدمة: «رأيت رام الله»: «بغنائيّة مكثفة»، تجعلها «من أرفع أشكال كتابة التجربة الوجودية للشتات الفلسطيني التي نمتلكها الاَن…».
عاش مريد البرغوثي متعباً، قال لرضوى: «أنت جميلة كوطن محرَّر/ وأنا مُتعب كوطن محتل». ولكن إن قرأنا شعره ونثره، وعرفنا مواقفه، وتتبعنا مسار حياته، نقول: إنه قرينها في الإبداع والنضال. قال لها: «رضوى / يا قمح الخابية الذهبيّة لكل الجوعى / تنضجك الشمس المصريّة / خبزاً للفلاحين…»، وهو الفلسطيني الذي أنضجته شموس أماكن الاضطرار، كما جاء في قصيدته، في رثاء غسان كنفاني: «فلسطيني في الشمس»، وهو الجميل، أيضاً، مثل وطن محرَّر…