الاستقرار النقدي تحققه قوّة الاقتصاد لا وهم التثبيت…
} أحمد بهجة*
لا شكّ أنّ الوضع المالي والاقتصادي في لبنان وصل إلى مرحلة صعبة جداً، على كلّ المستويات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والصحية وغيرها… والأزمات المتشعّبة تلقي بثقلها على كاهل غالبية الشعب، حيث أصبحت نسَب البطالة المعلنة والمقنّعة مرتفعة بشكل غير مسبوق، وتدنّت قيمة الرواتب والأجور بنسبة كبيرة، وهذا التدنّي مستمرّ يومياً مع تجاوز سعر صرف الدولار عتبة التسعة آلاف ليرة.
ينعكس كلّ ذلك بطبيعة الحال على مستوى معيشة اللبنانيين، حيث تفيد إحصاءات البنك الدولي أنّ نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر في لبنان تخطت الـ 50 في المئة من الشعب اللبناني، ويُتوقع أن تزيد هذه النسبة إذا لم يتمّ إيجاد حلول سريعة قادرة في مرحلة أولى على الأقل أن توقف الانحدار ثم البدء في رحلة الصعود من الهاوية تدريجياً.
بالتأكيد لم يأت هذا الوضع السيّئ من لا شيء، بل هو نتيجة سياسات مالية واقتصادية خاطئة اتّبعت منذ ثلاثة عقود، أيّ بعد انتهاء الحرب الداخلية في لبنان، حيث كان العديد من خبراء الاقتصاد والمال ومعهم عدد من السياسيين يحذرون باستمرار من مساوئ تلك السياسات وعواقبها القاسية والموجعة، خاصة حين أجاز مجلس النواب للحكومة في موازنة العام 1997 الاستدانة بالعملات الأجنبية بحجة إعادة هيكلة الدين لأنّ الفوائد أقلّ من تلك التي تتكبّدها الخزينة العامة على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية والتي وصلت عام 1995 إلى نحو 43 في المئة.
أما الحقيقة فكانت في مكان آخر، حيث كان الهدف من الاستدانة بالعملات الأجنبية هو تدعيم موجودات مصرف لبنان من القطع الأجنبي لكي يستطيع تثبيت سعر الصرف على 1500 ليرة للدولار الواحد، وذلك بدلاً من وضع سياسات تعزز قطاعات الإنتاج وتطلق عجلة الاقتصاد وتحقق النمو والتنمية المستدامة، وهو ما يكفل تدريجياً تحقيق الاستقرار في سوق القطع وحماية الليرة بقوّة الاقتصاد الإنتاجي وليس بالمضاربات ورفع الفوائد في سياسة وهمية كان واضحاً أنها ستوصل البلد إلى الكارثة، وهو ما حذر منه النواب المعارضون في جلسة إقرار موازنة العام 1997، ولمن يشاء الاطلاع على وقائع تلك الجلسة فهي موجودة ومسجلة بالصوت والصورة.
ورغم التأكد قبل ربع قرن من أنّ المسار خاطئ، إلا أنّ القائمين على السياسة النقدية والمالية في البلد استمرّوا في السياسات نفسها، الأمر الذي طرح بداية جملة أسئلة تحوّلت اليوم إلى اتهامات معزّزة بأدلة ثبوتية بالتآمر على البلد والناس والاقتصاد والاستقرار الاجتماعي… خاصة أنّ ما يتعرّض له لبنان اليوم من حصار مالي وعقوبات خارجية يؤكد هذا الأمر.
ذلك أنّ السعي الدائم لاستقطاب العملات الأجنبية استمرّ وتزايدت الوتيرة أكثر فأكثر نظراً للحاجة إلى المزيد من الاستدانة أولاً لتغطية فوائد الدين المتراكم، وثانياً لتغطية كلفة الاستمرار في تثبيت سعر الصرف، إذن كنا نستدين فقط لندفع فوائد الدين ما يزيد الدين ويزيد الفوائد في حلقة جهنمية مفرغة أوصلتنا اليوم إلى الإفلاس، دون أن ننسى المرور على ما سُمّيَ «الهندسات المالية» في العام 2016، وملحقاتها في العامين 2017 و 2018، والتي كلفت الخزينة العامة أكثر من 8 مليارات دولار، دُفعت كإغراءات للمصارف حتى يستقطبوا المزيد من العملات الأجنبية لحساب مصرف لبنان الذي كان يشتري الوقت بكلفة عالية جداً، بل خيالية، لكي يؤخر الفضيحة قدر الإمكان، لكنها وصلت في صيف العام 2019 ثم أصبحت في 2020 «فضيحة بجلاجل» على قول أشقائنا المصريين.
النتيجة الأليمة هي أنّ الخسائر كبيرة بل هائلة، لأنّ ما تمّ إهداره وسرقته من الخزينة العامة ومن ودائع الناس في المصارف، المقيمين والمغتربين وبعض الاخوة العرب، تبلغ قيمته مئات مليارات الدولارات، قد يحتاج اللبنانيون إلى أجيال لإعادة تكوينها، هذا إذا كان ممكناً إعادة تكوينها سواء في الداخل أو في الاغتراب.
بالطبع سيتمّ تحديد المسؤوليات بنتيجة التدقيق الجنائي الآتي مهما طال الزمن، بدءاً من حسابات مصرف لبنان مروراً بكلّ الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة وصولاً إلى كلّ من له علاقة بصرف ولو ليرة واحدة من المال العام.
وإذا كان تحديد المسؤوليات أمراً مهماً وضرورياً، من أجل محاسبة ومعاقبة كلّ من تسبّب بهذه الخسائر الضخمة التي تكبّدها الاقتصاد اللبناني، فإنه من الصعب في ظلّ الوقائع الحالية العودة إلى سعر الصرف على أساس 1500 ليرة للدولار. ولكن وفق ما يقول بعض كبار الاقتصاديين فإنّ سعر الصرف يبقى أمراً ثانوياً إذا استطعنا تحريك عجلة الإنتاج وبدأت الناس بفعل هذا الإنتاج تزيد مداخيلها شيئاً فشيئاً، وكلما ازدادت وتيرة الإنتاج كلما تحسّن سعر الصرف تلقائياً ومن دون الحاجة إلى سياسات مصطنعة كما في العقود الثلاثة الماضية.
طبعاً يحتاج هذا النهوض إلى اتخاذ القرارات الصحيحة المنسجمة مع واقع الحال في الداخل وعلى المستوى الإقليمي والدولي، وهذا ما يُحتّم علينا تفعيل موضوع التوجه شرقاً الذي سُجلت على طريقه بضعة خطوات والمطلوب المزيد منها بدءاً من سورية والعراق والأردن وصولاً إلى إيران وروسيا والصين، حيث القدرة موجودة للاستثمار في مشاريع إنتاجية في قطاعات عديدة منها الكهرباء والطاقة والمياه والمواصلات والطرقات والأنفاق وغير ذلك، لكن المسألة مرتبطة بالقرار السياسي الذي ندعو إلى اتخاذه اليوم قبل الغد.، لأنّ الدول الغربية لن تساعد لبنان لأسباب وشروط سياسية لا يستطيع لبنان تلبيتها، وكذلك الدول العربية الدائرة في الفلك الأميركي لن تساعد للأسباب السياسية نفسها، خاصة أنّ مسار الاعتراف بدولة العدو والتطبيع معها يجعل أكثر من دولة عربية فاعلة ومؤثرة في المجال الاقتصادي تحجم عن تقديم يد العون للبنان.
*خبير مالي واقتصادي