السياسيون يتصارعون والشعب هو الخاسر الأكبر
علي بدر الدين
يُحكى أنّ ديكاً كان يصيح فجر كلّ يوم، جاء إليه صاحبه وقال له، لا تصيح مرة أخرى، وإلا سأنتف ريشك. خاف الديك، وقال في نفسه، الضرورات تبيح المحظورات، والعقل يقول، أن أتنازل حفاظاً على نفسي، وهناك ديوك غيري عليها أن تصيح بدلاً مني، وفعلاً توقف الديك عن الصياح. ولكن بعد أسبوع جاء صاحبه، وقال له، إنْ لم تقاقِ كالدجاجات سوف أنتف ريشك، وأيضاً تنازل الديك وفعل ما طلب منه، غير أنّ عملية ابتزازه والضغط عليه لم تتوقف عند هذا الحدّ، حيث طلب منه صاحبه أن يبيض كالدجاجات، وهدّده بالذبح إذا لم يبض، عندها بكى الديك، وقال، بألم وحسرة وندم، يا ليتني متّ وأنا أصيح، لأنّ ما كنت أخافه وأهرب منه وهو الموت قد وقع عليّ بعد كلّ هذه التنازلات. يعني مت وأنت ديك وإلا فعليك أن تبيض.
هذا هو حال الشعب اللبناني المسكين، مع حكامه المتعاقبين، الذين يطلبون منه التحمّل والصبر والانتظار، لعلّ الآتي يكون أفضل له، وقد تتحقق أحلامه، ويعيش حياة طبيعية كمعظم شعوب العالم، وعليه أن يثق بهؤلاء الحكام، ويطمئنّ إليهم ويصدّق وعودهم، وينفذ أوامرهم من دون تردّد أو عصيان، أو رفع الصوت، وعدم الأنين مهما بلغ منه الوجع، وحلّ به الفقر والجوع، وفتك فيه المرض، وتعطلت أعماله واسوَدّت الدنيا في وجهه.
على هذا الشعب أن يدرك أنّ الحكام أحرص منه على نفسه وعياله، وهم لا يعرفون الليل من النهار، ولا الضوء من العتمة من أجل توفير مقومات الحياة الكريمة اللائقة له، وكلّ ما يحصل من انهيار اقتصادي وإفلاس مالي وتراكم للديون وهبوط للعملة الوطنية، وارتفاع في الأسعار والغلاء الفاحش وإخفاء ونهب وتهريب المئات من السلع الضرورية للمواطن، واحتكار الدواء والطحين وإفراغ خزينة الدولة، والسطو على أموال المودعين اللبنانيين المقيمين والمغتربين في المصارف، وما يحصل من خلافات وصراعات وحروب وصفقات وفساد وتحاصص واتهامات وإساءات وفضائح لبعضهم البعض ومواقف عنترية وتحميل المسؤولية لهذا الفريق أو ذاك، وآخر عناقيدها المهترئة المتدلية على جدار المصالح والتحاصص، كلّ هذا وأكثر منه، ليس سوى ابتلاء وامتحان لهذا الشعب الذي سينال عليها انفراجاً وخيراً وفيراً، وما عليه أمام أحماله التي تعجز عن حملها الجبال، إلا الطاعة والخنوع، وانتظار المزيد من الوعود الكاذبة والمواقف الجاذبة، ومن أجل انتزاع حقوق الطائفة والمذهب من الآخر الطامع بها، وتحت عناوين، اتفاقي الطائف والدوحة، والميثاقية، والقانون والدستور والحصص والمعايير والمقاييس والصلاحيات، والحيادية وتدخل الأمم المتحدة والوصاية الدولية، والفصل السابع وغيرها من خيارات داخلية وخارجية، يسعى إليها البعض لإنقاذ نفسه ومصالحه وحاضره ومستقبله السياسي، في عملية تمويه وتشويه وترغيب وترهيب غير مسبوقة، لإشغال هذا الشعب وإلهائه عن كلّ المآسي والكوارث والأزمات التي حلت به دفعة واحدة، بفضل الطبقة السياسية الحاكمة منذ ثلاثة عقود وأكثر، وبقبول وصمت واستسلام وخنوع من الشعب اللبناني العظيم، الذي تتقاذفه أمواج الطبقة السياسية المتلاطمة من حماية نفسها ومواقعها السلطوية ومغانمها وحصصها، تاركة شعبها الذي يغرق والطوفان يهدّد وجوده ويلفظه إلى واد سحيق لا قعر له.
السلطة مستمرة في سياسة الفساد والمحاصصة والإهمال والحرمان والخلافات العبثية غير آبهة أو مهتمّة بمصلحة الوطن والدولة والشعب، تنتظر على مفارق مصالحها، ما يمكن أن يفعله لها الخارج، لإنقاذها والتجديد لها، وإعادة إنتاجها، وهي تنقل البلد من أزمة إلى أخرى لأهداف سياسية سلطوية محلية ومستقبلية، وإلا فإنّ الإطالة في أزمة تأليف الحكومة، والأزمات الأخرى ومنها مآل التحقيق بانفجار المرفأ والتدقيق الجنائي والموازنة والانتخابات الفرعية او الانتخابات المبكّرة أو العامة في مواعيدها الدستورية، ستبقى محور التجاذبات والسجالات و«تهبيط الحيطان» بين القوى السياسية والطائفية التي ترفع سقوف التحدي والخطاب والتعبئة، و«قوم عني تفرجيك» و «ما بتنازل او بتراجع عن موقف أو قرار أو صلاحية لو بتشوف حلمة إذنك».
كيف يمكن ان يُبنى وطن وتقوم دولة وتفعل مؤسسات وتسود عدالة ويعود حقّ مسلوب ومصادر، في ظلّ سلطة سياسية ومالية فاسدة ومستبدة ومتسلطة ولا ترى أمامها وأبعد منه سوى مصلحتها وأرباحها وشراكتها وحصصها؟ وكيف ستشكل حكومة والقوى السياسية المعنية أو معظمها أو بعضها «تسنّ سيوفها ورؤوس رماحها، وتستعدّ لحرب سياسية طويلة الأمد، ولن تكون نهايتها بغالب ومغلوب، بل وتفاهمات وتسويات وحصص موزعة بالتساوي وصفقات على قاعدة 6 و 6 مكرر، والشعب هو الخاسر الأكبر الذي دائماً «بتطلع براسو» وهو يتفرّج على المتصارعين على حلبة أمنه واستقراره ومعيشته وحقوقه، بل يصفق لهم ويرتمي في أحضانهم، عله ينال منهم «ما مقداره شعرة من جمل» أو أملاً بوظيفة متواضعة جداً أو تزفيت طريق، أو شرف استقباله، ليكحّل عينيه برؤيته البهية.
لهذا كله فإنّ الرهان على الشعب ساقط وغير مجد، وقد تحتاج الاستفاقة إلى زمن غير منظور. يقول الشيخ القبيسي العاملي، «إنه لا يمكن أن نحمّل الناس مسؤولية كل ما يجري لأنهم في الأعمّ والأغلب بسطاء، لا يقرأون ما بين سطور حكامهم، ولا يملكون مهارة تأولية، لما خلف الخطاب السياسي، من مقاصد شخصانية، وأهواء نفعية ذاتية، ويجب ألا ننسى التقسيم الطائفي الذي يحكم البلد منذ تأسيسه، بحيث يشعر كلّ مواطن ينتمي لطائفة بوجوب الانتصار لها مقابل الاصطفافات الطائفية الأخرى.
يضيف: «نرى إعادة إنتاج الطبقة السياسية الطائفية، عند كلّ استحقاق انتخابي شعوراً منهم بضرورة الانتماء والإخلاص بدافع الحماية والتموضع والخوف من تداعيات الخلاف السياسي، في مواجهة الآخرين، وهذا في الواقع ما يغري الزعامات الطائفية للاستغراق في نهجها النفعي الذاتوي، والتمسك بمواقفها السياسية على حساب طيبة هذا الشعب وضعفه، عن ممارسة النقد لتصويب الأمور.
وأكد الشيخ القبيسي العاملي الحاجة إلى حراك أفقي قائم على أسس نقدية اجتماعية في كلّ طائفة للانطلاق نحو عملية التغيير العمودية، وأنّى يحصل هذا التغيير (ما دام فاقد الشيء لا يعطيه)».