كرة السلة والجودو
} زياد كاج*
« الحركة بركة”، يقول المثل العاميّ عندنا. وهي نعمة حَرَمنا منها “زمنُ الكورونا” منذ أشهر طويلة. كثرٌ مثلي يسكنهم الشوق للمشي على الكورنيش البحري وممارسة الرياضة التي يحبونها والخروج إلى الأماكن الجبلية البعيدة حيث الطبيعة العذراء. لكن في الوقت نفسه، كثر وجدوا أنفسَهم منسجمين أكثر مع حالة الإغلاق العام والابتعاد عن ممارسة أي نشاط جسدي. كثر يجدون في “التنبلة” لذة وطريقة عيش.
المسألة لها علاقة بالتربية البيتية والاجتماعية وأحياناً بعلم الجينيات. فممارسة الرياضة ليست خدمة عسكريّة.
لطالما لفتتني “رياضة الغولف” التي تمارسها الطبقات المخمليّة في المجتمعات. ولتسهيل الأمور على ممارسيها تُستخدَم سيارات صغيرة لنقل اللاعبين وعدّة اللعب على التلال الخضراء الواسعة. “لو صحّ لجدي ما كان مات”. الحمد لله نحن في لبنان لدينا “نادي غولفنا” وهو للتذكير قريب من أحزمة البؤس وثكنة عسكرية. وقيمة الاشتراك في النادي “رمزية” مقارنة مع أرقام حسابات المشتركين.
الرياضة، على أنواعها، ليست فقط حركة ونشاطاً للجسد. هي دواء الروح وفلسفة بحدّ ذاتها. أشرفها وأقلها كلفة وأكثرها فائدة: المشي. يكفي حذاء غير مؤذٍ والباقي “من قريبو”. مهما كان الإنسان متعباً ومهموماً والمشاكل تتلاطم في رأسه، ساعة من المشي كفيلة بأن تنسيَه كل شيء وتصفّي ذهنه. فالمسألة مثبتة علمياً. وهذا ما كنتُ أفعله بعد نهار طويل في المكتب. ولطالما كنت أستغرب منظر بعضهم وبعضهن يمشون على الكورنيش البحري والسمّاعات التلفونيّة في آذانهم وهم يصرخون ويتجادلون مع محدّثهم وبأصوات عالية مسموعة. المشي قرب البحر لإراحة الأعصاب والابتعاد عن صخب الحياة وليس لمناقشة المشاكل الزوجيّة أو الصفقات التجارية.
كان من حظي كمراهق نشأت في رأس بيروت أنني انجذبتُ لصوت طابة كرة السلة ولفتني مشهد اللاعبين المَهَرة وهم يسدّدون الطابة الحمراء من بعيد لتدخل في السلة المزيّنة بشبك مصنوع من حبال القماش الأبيض والأحمر. ذلك الصوت الذي يُحدثه دخول الطابة في السلة والشبك من دون ملامسة الحديدة الدائريّة علق في رأسي. طلاب وطالبات مدرسة “ثانوية الروضة” كانوا يسمّونها بالفرنسية “سان توشيه”. أنا لا أفهم الفرنسية لكنني حفظتها كما حفظت كلمة “كرواسون”. هكذا هي رأس بيروت: تعلّمك أموراً وأشياءً مجاناً و”ع الطاير».
اشتريتُ طابتي الخاصة الرخيصة الثمن وصرت أقصد متسللاً ملاعب الجامعة الأميركيّة في بيروت. في تلك الأيام كان الملعب الأخضر أخضرَ بالفعل ومن الحشيش الطبيعيّ (بالإذن من الأخ نوح زعيتر) ويُسقى برشاشات مياه تحت إشراف أبو مروان وأبو عطا اللذين أصبحا في دنيا الحق. الأول كان من عين المريسة والثاني من الجنوب. رائحة الحشيش الطبيعي بعد السقاية لا تعادلها رائحة. مع الوقت والممارسة، لقطت اللعبة وفنونها وأسرارها. كنت أداوم مع الشلة وبعض شباب شارع المكحول والمحيط بشكل شبه يومي من الصباح حتى المساء. وجلتُ ولعبتُ على ملاعب مدرسة الـ “أي سي” والـ “أى سي أس” والـ “بي يو سي” سابقاً، وجامعة “الهيكازيان”. ووصلت إلى ملاعب النادي الرياضي الذي كنت أقصدُه صباحاً فألتقي بفتاة مثلي نلعب معاً من دون كلام أو تواصل! غريب كيف جرى ذلك؟ كنت فتًى خجولاً. ورغم ممارستي لكرة السلة لسنوات طويلة لم أطحش كما فعل غيري وأحاول الحصول على قميص لنادي “الرياضي” الذي كان لأبناء العائلات “يلي فوق”.
الدنيا نصيب. ففي يوم ماطر تركت الملعب الأخضر باكراً. كان الوقت بعد الظهر. اشتدّ المطر فصار المشي إلى البيت مستحيلاً وأنا أرتدي “بروتيل” و”شورت” وحذاء رياضيّاً يستدعي الماء. وصلت إلى مبنى الكولج هول، فلطيت في إحدى الزوايا. اشتدّ المطر زخات وأضاء الرعد السماء الرمادية الداكنة. حتى المدخل الرئيسيّ حيث الحرس لم يعد مرئياً بوضوح. لمحتُ فتاة تركض مبتلّة صوبي. وقفت بعيداً ثم أخذت تقترب رويداً إلى أن التصقت بي. تفاجأت. لم أفعل شيئاً. هدأ المطر بعد دقائق، فمشيت تاركاً خلفي فتاة مصدومة. لليوم أضحك لعملتي.
أبعدتني كرة السلة عن السباحة التي أتقنتها في عمر متأخّر بشغف وبيني والبحر أكثر من غرام. لكنني تعلّمت رياضة أخرى من دون ممارستها. رفاقي كانوا يمارسونها في نادي “البانزاي” قرب ساقية الجنزير. كنت أرافقهم إلى النادي تحت الأرض وأراقب المدرب المحترف محمد درويش يدرّبهم بطريقة تركز على الأخلاق واحترام الخصم وعدم أذيته. في النادي راقبت وتعلّمت كل الحركات. رياضة الجودو دفاعيّة بامتياز وهي أخطر من الكاراتيه وتُدرَّب في الجيوش. رأيت أصدقائي يبدّلون الأحزمة بعد سنوات من التدريب: من الأصفر، إلى الأخضر، وصولاً إلى الأزرق وأخيراً الأسود. رياض غندور وجهاد صيداني حصلا على الحزام الأسواد. مباراتهما كانت تُترَك إلى آخر التمرين. متعة أن تشاهد شابان قويّان يتنافسان وكلاهما يعرف نقاط قوة الآخر وضعفه. أحياناً كان يفوز رياض وأحياناً جهاد. وأحياناً يكون التعادل سيد الموقف.
مارست هذه الرياضة مرة واحدة في قاعة الجامعة الأميركية في بيروت في “الوست هول” مع الطالب الطبيب مصطفى علوش (النائب) الذي تخصّص لاحقاً في جراحة العظم ولقن أحد زعران الميليشيات درساً لن ينساه في قسم الطوارئ. كنتُ مبتدئاً وحاولتُ اللعب معه بقسوة. دقائق ووجدتُ نفسي أفتل في الهواء بشكل دائريّ وأقع على ظهري خلف صاحب الحزام الأسود.
تخرّجتُ من المدرسة ودخلتُ الجامعة اللبنانية. كلية الإعلام قرب جسر الكولا. حاولت نقل ما لديّ من ثقافة رياضية إلى الزملاء والزميلات. مدير الكافيتيريا كان مدرّب رياضة متقاعداً عرفته من أيام الثانوية الرسمية في رمل الظريف. اقتنع بتثبيت لوح خشبي مع سلة وشبكة على أحد العواميد الجانبيّة في ساحة الكلية. فرحت عندما وجدت شريكاً لي في الجامعة يحب اللعبة. أسعد كان صاحب أخلاق عالية ويتقن اللعبة. بعد فترة اكتشفنا أن السلة قد كُسرت ورُميت بعيداً بحجة أنّها تشجّع على التخالط بين الجنسين. شعرت بأسًى وحسرة. حتى أننا بعد أربع سنوات حُرمنا من إقامة حفل تخرج بحجة أن لباس التخرّج يُعتَبَر كنسيّاً.
صديقي وزميلي أسعد (تخصص في الإعلام وحصل على شهادة الدكتوراة في لندن) كان متحمساً شديداً للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني. كانت عادته أن يجلب بقلاوة لكل الصف عند نجاح عملية للمقاومة، خاصة إذا قامت بها الجهة التي يؤيّدها والمحسوب عليها.
أتذكّر صديقي أسعد اليوم لأنه كان يبادر إلى حمل السلة البلاستيكية في قاعة المحاضرات والدوران على الطلاب والطالبات كي لا يرموا “كرات” الكلينكس على الأرض.
أسعد كان اللاعب الوحيد الذي حمل السلة سعياً وراء الكرات. لم يكسر السلة كما فعل غيره. قلب اللعبة. به وبأمثاله حُرِّر الجنوب المحتل عام 2000.
الرياضة أخلاق.
*روائي من لبنان.