زيتونة فلسطين وجذع الأغاني
حمزة البشتاوي*
ارتبط اسم الشاعر عبد الكريم الكرمي، أبو سلمى، الذي ولد في طولكرم عام 1909، حيث كروم الزيتون واللوز والليمون بزيتونة فلسطين الصامدة التي تمتدّ جذورها في أعماق الأرض والتاريخ والتراث.
وأبو سلمى هو إبن العلامة الشيخ سعيد الكرمي الذي تولّى مناصب علمية وقضائية في سورية والأردن قبل نكبة عام 1948 ومن المناصب التي تولاها منصب نائب رئيس مجلس المعارف والمجمع العلمي في الأردن، ولذلك كان يتنقل مع أسرته بقطار كان يسير على خط سكة حديد تصل إلى القاهرة وبيروت والشام.
درس أبو سلمى في مدارس طولكرم والشام والأردن ونال شهادة البكالوريا السورية في شهر حزيران سنة 1927، ثم عاد إلى القدس ووقتها كان الشاعر إبراهيم طوقان قد أنهى دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت وأسسا مع الشاعر عبد الرحيم محمود عصبة من رواد الشعر الفلسطينيّ في القدس.
وعمل أبو سلمى في القدس في مجال التعليم وثم تابع دراسته الجامعية وحصل على شهادة في القانون للدفاع عن الأرض والمظلومين وفي يوم 17/1/1936 تزوّج أبو سلمى من رفيقة عمره السيدة رقية فقها رئيسة الاتحاد النسائي في عكا وابنة رئيس بلديتها في ذلك الوقت. وكان الزواج في مدينتها عكا حيث سكنا فيها بعد الزواج وبعد فترة انتقلا للسكن في مدينة حيفا. وافتتح أبو سلمى في المدينة مكتب محاماة وعاشا هناك حتى بداية الأحداث في حيفا وما فيها من دخان بارود ومؤامرات وتدمير وتهجير وموت. وخوفاً على زوجته وابنه قام بإرسالهما إلى عكا بزورق بخاريّ عبر البحر وفي قلب البحر صار الولد يبكي والبحر يهوج ويموج وغطت السماء فوق الزورق غيمة سوداء فيها أشكال وجوه مثل الوحوش والزورق يميل شمالاً ويميناً وصار شكله مثل الميزان المكسور، والولد يصرخ ويبكي من خوفه مثل المجنون وأمه تحاول تهدئته وتقرأ له مقاطع من قصائد أبو سلمى وصوتها القويّ يعلو إلى أن وصلوا شاطئ حيفا، حيث كان أبو سلمى بانتظارهم وأقاموا فيها إلى أن سقطت يوم 22/4/1948.
لم يستطع أبو سلمى أن يأخذ معه من كتبه أثناء النكبة إلا مخطوط لمجموعة شعرية ألفها عن ثورة عز الدين القسام وثورة الـ 36 مع مقدّمة لمجموعته الشعرية كتبها الأديب المصري إبراهيم عبد القادر المازني. ذهب إلى عكا حزيناً على أشعاره التي تركها في دُرج مكتبه واستمرّ الحزن والألم مع صدمة سقوط عكا بـ 14 أيار سنة الـ 1948.
وبسبب النكبة أصبح أبو سلمى يعيش بعيداً عن أرضه حاملاً معه مفتاح العودة لبيته ومفتاح الشعر والعشق الكبير، ولجأ إلى الشام حيث سكن فيها وأحبها وأحبّ فيها الياسمين والحمام، وتعبيراً عن عشقه الفلسطيني قال:
فلسطين لا أحلى ولا أجمل ولا أطهر
كلما قاتلت من أجلك أحببتُك أكثر
ولفترة طويلة لم يُنشر شعر أبو سلمى بالصحف والمجلات ولم تصدر له أية مجموعة شعرية مطبوعة إلا بعد النكبة، حيث قام بجمع قصائده الموجودة وما حفظته ذاكرته وأصدرها بمجلد واحد بعنوان: ديوان أبي سلمى – عبد الكريم الكرمي.
ويقول عارفوه إنه عاش حياته الشعرية في فلسطين ومن أجل فلسطين كمؤرخ وشاعر للقضية حاملاً ألمه وقلمه وأشواقه كشاعر لا يهادن ولا يساوم وكان يمزج صور الطبيعة بمشاهد النضال وملامح الحبيبة بملامح الوطن وتميّز شعره قبل النكبة بالنبرة السياسيّة والخطابيّة وكان يوظف شعره بخدمة وطنه وشعبه وكان شعره مليئاً بالحماسة وملتزماً بتقاليد الشعر العربيّ في الإيقاع والوزن والقافية.
وبعد النكبة تطوّرت تجربته الشعرية وصارت مدرسة لكبار الشعراء الذين تحدّثوا عن مكانة أبو سلمى الشعرية ومنهم الشاعر محمود درويش الذي قال: أبو سلمى هو الجذع الذي نبتت عليه أغانينا. وقال له نحن امتدادك وامتداد أخويك إبراهيم وعبد الرحيم الذي قاتل بالكلمة والجسد، وقال درويش: لا لسنا لقطاء إلى هذا الحدّ إننا أبناؤكم، لقد كنتَ شاعر المقاومة قبل اكتشاف النقاد لهذا التعبير.
وأبو سلمى رسم بشعره أجمل اللوحات عن الوطن وكتب أجمل الأناشيد لفلسطين التي عاش في قلبها وعاشت في قلبه نشيداً للأمل والحنين.
*كاتب وإعلاميّ.