أنيس النقاش: بيروت التي نعرفها
بشارة مرهج _
من الأسباب التي دفعت أنيس النقاش لتبنّي القضية الفلسطينية وإعطائها الأولوية على سواها من القضايا ومرافقتها فكرياً وميدانياً تحرّره الكامل من العصبية الطائفية، أو “اللوثة اللبنانية” التي تتسرّب إلى الإنسان غداة ولادته وتنمو معه بقوة البيئة والمصلحة والتقليد.
وقد ساهمت عائلته، كما محيطه البيروتي المتأثر بمدرسة جمال عبد الناصر، في تطوّره الفكري والسياسي خارج المنظومة الطائفية التقليدية التي تشدّ الفرد الى العزلة والكيانيّة. فما أن شبّ راحلنا العزيز وتشكل وعيه العام حتى كانت الثورة الفلسطينية في عزّ انطلاقتها تردّ على الهزيمة التي هزت وجدان الشباب العربي، وتردّ على التخاذل الذي طبع مواقف الأنظمة، في معارك فعليّة على الأرض كانت ذروتها معركة الكرامة التي انتشلت النفوس من حضيض اليأس وطرحت نموذجاً يقتدى به للخروج من حال التردّي والاستسلام. في تلك اللحظة، أتصوّر، أنّ أنيس وجد نفسه في ذلك التيار الذي كان يبعث الحياة في جسم مترهّل لا يقوى على النهوض، ووجد نفسه أمام قضية تحرّر وطني صادقة تقرن القول بالفعل وتستحوذ على فكره ومشاعره فاتحد بها واتخذها بشرعيتها ووهجها بوصلة توجّه مواقفه وتطبع ممارساته.
لكن أنيس لم يقتنع بهذه العلاقة التي أرادها أشمل وأعمق وأوثق. فقد ارتسمت أمامه القضية الفلسطينية بصفائها وحقيقتها – وكان ذلك قبل أن تتسرّب الأنظمة الى شجرتها وفنائها – ارتسمت قضية شعب يناضل من الخيام والشتات ضدّ الاستيطان والاستلاب ويقدّم، منذ عقود، شلالاً متواصلاً من الدماء والتضحيات لانتزاع حرياته واستعادة حقوقه وتحرير أرضه التي لا يريد أرضاً سواها.
وهنا التقت الفطرة لدى أنيس مع عقله المتوهّج الذي لعب دوراً كبيراً هو الآخر في حصول هذا التماهي مع الثورة الفلسطينية الذي رسّخه بنضالاته كما بدراساته التي كانت كلها تؤكد قناعاته واختياراته وتزيده عناداً وتوغلاً في خياراته السياسية التي بدت أحياناً غير مألوفة لشاب بيروتي يملك فرصاً كبيرة للارتقاء والتقدّم في مجتمعه التقليدي.
تربى أنيس النقاش ثورياً في كنف حركة فتح التي استهوته كما استهوت صفوة الشباب العربي في ستينيات القرن الماضي. ولم يكتف بالحلقات والمظاهرات والتدريبات فقد التحق مبكراً بالكتيبة الطلابية التي كان لها شأن وشهرة ومكانة إبان الحرب اللبنانية. خصوصاً أنها عرفت كيف تتعامل مع الجماهير اللبنانية في الجنوب وسواه وعرفت كيف توثق هذه العلاقات على قاعدة الودّ والاحترام والتصرّف الحسن مما زاد فعاليتها وشعبيتها وقدرتها على مقارعة العدو بفعالياته العسكرية ونشاطاته السرية.
وقد كانت تلك الكتيبة متوجّهة بكليتها للنضال ضدّ الاحتلال الصهيوني عندما وجدت نفسها مرغمة على خوض بعض معارك الداخل في إطار الحرب الأهلية اللبنانية عندما تعرّضت قوى الثورة الفلسطينية، كما الحركة الوطنية اللبنانية، لحرب شعواء شنّتها قوى الانعزال والالتحاق بدعم من قوى غربية ورجعية.
وبعد اتفاق الأطراف العربية على وقف الحرب في لبنان وتكليف قوات الردع العربية – حيث للسوريين الحصة الأكبر – بهذه المهمة دخلت الأوضاع اللبنانية ومعها الثورة الفلسطينية فترة هدوء نسبيّ ومراجعة مع إصرار على استكمال العمل في الجنوب والبقاع الغربي لمواجهة العدوان الصهيوني المستمرّ والذي بدأ يأخذ أشكالاً استيطانية مسلحة على الأرض اللبنانية.
في تلك المرحلة اهتزّت المنطقة على وقع الثورة الإسلامية في إيران التي اقتلعت الشاه شرطي الخليج والركيزة الأولى للسياسة الأميركية – “الإسرائيلية” في الإقليم.
وعندما بادرت الثورة الإيرانية الى إغلاق السفارة “الإسرائيلية” في طهران وفتح أول سفارة لفلسطين في إيران وعقد التفاهمات مع القيادات الفلسطينية وجد أنيس النقاش نفسه وسط هذه اللقاءات متجاوباً أشدّ التجاوب مع الأفكار السياسية التي بدأت تطرحها إيران حيال قضايا المنطقة لا سيما القضية الفلسطينية.
هنا انفتحت مرحلة جديدة من حياة أنيس النقاش خاض معاركها بكلّ قناعة إلى جانب الثورة الإيرانية التي أصبحت موئله ومرجعه من دون أن ينفصل لحظة واحدة عن القدس حبه الأول والأثير.
*نائب ووزير سابق