لماذا تحاور أميركا إيران بالنار: تضرب المقاومة في العراق وسورية وتهدّد بلسان «إسرائيل» المدنيّين في لبنان؟
د. عصام نعمان*
جو بايدن أعلن خلال انتخابات الرئاسة معارضته خروج أميركا من الاتفاق النووي مع إيران بقرارٍ من منافسه دونالد ترامب. كرّر الموقف ذاته بعد تسلّمه مقاليد الرئاسة. أكده مسؤولو إدارته الجديدة مقروناً برغبته في عقد مفاوضات مع إيران للتفاهم على متطلبات العودة.
طهران رحّبت بعودة أميركا الى الاتفاق النووي إنما من دون شروط. واشنطن استمرت في البحث عن وسائل كفيلة بجرّ طهران الى طاولة المفاوضات. يبدو أنها عثرت على وسائل مناسبة او ظنّت انها فعلت. ففي فجر يوم الجمعة الماضي، قصفت تجمعاتٍ لفصائل من «الحشد الشعبي» العراقي تعتبرها حليفةً لمحور المقاومة وذلك في مواقع لها على الجانب السوري من الحدود مع العراق. المعارضون العراقيون كشفوا ان الضربة تمّت بتنسيقٍ بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
إدارة بايدن لم تكتفِ بما فعلته بالمقاومة العراقيّة في شرق سورية. تغاضت عن تهديد بنيامين نتنياهو ووزير حربه بني غانتس لبنان بأنّ «إسرائيل» لن تتوانى عن تدمير ما تملكه المقاومة من صواريخ دقيقة قام حزب الله بتخزينها ــ حسب زعمها ــ بين منازل المدنيين في مختلف أنحاء البلاد.
قائد المقاومة السيد حسن نصرالله كان استبق تهديدات «إسرائيل» بالإعلان، قبل عشرة أيام، بأنّ المقاومة ستردّ على قصف أيّ موقع مدني لبناني بقصف منشآت عسكرية «إسرائيلية» قائمة بين أحياء ومواقع مدنيّة داخل فلسطين المحتلة. إنذاره جرى تعزيزه ببثّ صورٍ لهذه القواعد والمنشآت في مختلف أقنية التلفزيون.
من الواضح انّ إدارة بايدن تبتغي من وراء هذه الاعتداءات والتهديدات، مباشرةً او مداورةً، تحقيق جملة اغراض:
أولها تجميع أوراق تهديدٍ بالنار في يديها تظنّ انها تشكّل وسائل ضغط على إيران لحملها على الرضوخ لمطلب المفاوضات.
ثانيها استرضاء «إسرائيل» التي تعارض عودتها الى الاتفاق النووي بالإيحاء لها بأن لا مضاعفات تمسّ بأمنها القومي إذا ما عادت أميركا الى ذلك الاتفاق طالما انّ في وسعها، كما «إسرائيل»، الحدّ من خطر إيران بضربِ حلفائها في العراق وسورية ولبنان.
ثالثها تحذير أعداء أميركا (و»إسرائيل») في المنطقة من مغبة مهادنة إيران وحلفائها في مرحلةٍ تتميز بظاهرتين لافتتين: استشراء حالات من الاضطراب والعسر الاقتصاديّ والفوضى في بلدان غرب آسيا، والعمل في سياق إعادة تشكيل المنطقة لاحتواء الأخطاء المميتة التي ارتكبتها إدارة ترامب الذاوية.
الى ذلك، ثمة نظرية تعتمدها الدولة العميقة في الولايات المتحدة وتنعكس سلباً على دول متعددة في منطقة غرب آسيا. إنها نظرية هنري كيسنجر في مقاربة الازمات المستعصية والمتطاولة التي تأخذ احياناً بخناق بعض الدول. كيسنجر كان ركّز أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه على مسألة موازين القوى في العلاقات الدولية واعتمدها كدليل عمل أثناء اضطلاعه بوظيفته كمستشار للأمن القومي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون ثم كوزير للخارجية. لكنه، بعد انتهاء خدمته العامة وفي ضوء تجربته الغنية خلالها، عدّل قناعاته بشأن هذه النظرية مستنتجاً في مقابلةٍ صحافية ودراسات لاحقة بأن ازماتٍ معقدة قد تنشأ في بعض الدول فتتطوّر وتتطاول ولا تبدو قابلة للحل. مثل هذه الأزمات يجب، في نظره، عدم الاهتمام بحلّها بل يجب تركها والاكتفاء تالياً بإدارتها لمصلحة الدولة التي تحتاج الى مواردها وأسواقها او لموقعها الاستراتيجي.
يبدو انّ الدولة العميقة في الولايات المتحدة تعتمد نظرية كيسنجر هذه في بلدان غرب آسيا التي تعاني ازمات عميقة ومتطاولة كلبنان وسورية والعراق، وقبلها جميعاً فلسطين المحتلة. أليس واضحاً للمراقب المتابع ان أميركا تقوم منذ ثلاثة عقود على الأقلّ بإدارة الأزمات المعقدة والمتطاولة التي تعانيها هذه البلدان ولا تقوم بأعمال جدّية لحلها أو تسويتها؟
إنّ إدارة الأزمة تتيح لأميركا هامشاً واسعاً من حرية العمل والمناورة من حيث توفيرها فرصاً لتلعب وتتلاعب بالأطراف المحليين الواحد ضدّ الآخر او ضدهم جميعاً ما يمنحها القدرة على تحقيق أغراضها. ما أغراضها في لبنان؟ لديها و«إسرائيل» اولوية رئيسة هي استبعاد حزب الله من السلطة وتعطيل تحالفه مع أطراف محور المقاومة، ومن ثم تعزيز مكانة ودور حلفائها المحليين الموالين في حكم البلاد.
في سورية، تدير أميركا الأزمة بإضعاف الحكومة المركزية ودعم تنظيمات إرهابية وأخرى ذات نزعة انفصالية او معادية في الوقت نفسه للتحالف القائم بين سورية وإيران من جهة والتعاون الجاري بينهما وبين روسيا من جهةٍ أخرى. ذلك كله يصبّ في خدمة مصالح أميركا و«إسرائيل».
في العراق، تدير أميركا الأزمة بالإيقاع بين الأطراف السياسية المتصارعة على السلطة والموارد والنفوذ، كما بالتركيز على ضرب فصائل «الحشد الشعبي» المتحالفة مع إيران ضد «إسرائيل»، والداعية الى تعزيز التعاون مع سورية دعماً لأطراف محور المقاومة.
في فلسطين المحتلة، تلتزم أميركا دعم «إسرائيل» سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وتتظاهر بتأييد بعض المشروعات التسووية كـ «حلّ الدولتين» من دون أن تتخذ تدابير جدية لتحقيق ايٍّ منها بل تتلطى بالتأييد اللفظي لهذه المشروعات الصوَرية لتتغاضى عن مشروعات «إسرائيل» الاستيطانية المتواصلة بل لتقوم، أثناء ولاية ترامب، بالاعتراف بضمّ القدس للكيان الصهيوني واعتبارها عاصمة له.
هكذا باختصار تدير الولايات المتحدة أزمات بلدان المنطقة، وهي إدارة مرشحة لأن تدوم وتستمر إلى أن تعي الاطراف العربية المعنية أن المخرج الوحيد من هذه المحنة المرّة والمتطاولة يكمن في اعتماد قاعدة تقديم الأهم على المهم، فتقوم القوى والقيادات الوطنية بتسوية خلافاتها بقصد بناء تحالف وطني عريض في الداخل وتعزيز الاتجاه الرامي الى إنجاز تحالف قومي مقاوم بين لبنان وسورية والعراق (والأردن بعد تحرره من معاهدة الصلح مع «إسرائيل») وقوى المقاومة في فلسطين المحتلة لمواجهة «إسرائيل» وحلفائها.
تنبّهوا واستفيقوا ايها العرب…
_ نائب ووزير سابق