كفرشيما.. سر العطاء
} زياد كاج*
« يلي بدو يعمل علمي يرفع إيدو»، قالت الناظرة الأنيقة والمتشاوفة والتي كانت تتعامل معنا كأننا قطعان غنم في المدرسة الرسمية. استجاب معظم الطلاب، باستثناء عدد قليل كنت أنا واحد منهم. فعلاماتي في الرياضيات والفيزياء لا تخوّلاني الانتقال الى مرحلة البكالوريا بقسمها العلمي. وبسبب عدم توفر الإمكانيات لفتح صف للبكالوريا الأدبية وجدت نفسي وعدداً من الطلاب أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما البقاء بانتظار الرسوب المحتّم أو ترك المدرسة. اخترنا الأخير.
ليس هناك أبشع من الإحساس الذي يتملك الطالب حين يجلس في حصة مادة الرياضيات ولا يفقه شيئاً. قمة الإحباط والشعور بالنقص والدونية تجاه زملاء يتسابقون بالإجابة على اسئلة المعلم كأنهم في مبارزة. معظمهم كانوا موهوبون أو لديهم إخوة أكبر منهم في البيت يساعدونهم. اثنان من نوابغ الرياضيات عاصرتهما: يوسف الصغير (شقيق الدكتور ناجي الصغير) وهشام دوبا المتفوّق في كل المواد… حتى في الأدب العربي، ومالك شمص (أصبح جنرالاً في الجيش اللبناني).
كان عليّ أن أعمل في العطلة الصيفية كي أوفر جزءاً من قسط المدرسة الخاصة. وبمساعدة من شقيقتي عايدة وجدت نفسي داخل أسوار «الثانوية الإنجيلية الوطنية» القريبة من مخفر حبيش (رأس بيروت اليوم). مدرستي الرسمية كانت قريبة من سجن كان يُطلق عليه اسم «سجن النسوان!».
في المدرسة الخاصة اكتشفت لأول مرة أنني كطالب لي حقوق ومن غير المسموح أن أتعرّض للإهانات من معلمين أو حتى للمضايقات من الطلاب المدعومين من أحزاب ومنظمات. عالم المدرسة الخاصة كان بعيداً عن جو أحزاب الحرب؛ وبدا لي أكثر أماناً وحميمية وفيه تعرفت لأول مرة على زميلات من الجنس اللطيف. في البداية كانت وجنتاي تكتسبان اللون الأحمر إذا ما تحدثت معي إحداهن. رانيا ورائدة — صرنا إصدقاء لاحقاً — استغلين نقطة الضعف هذه وضحكن كثيراً عليّ. ساعدني على التأقلم مع الأجواء الجديدة صديق بيروتي «مكحْكحْ» اسمه عادل شهاب. يصعب أن أنسى هذه الشاب الكسول تربوياً والمليء بالشيطنة والفهلوة حياتياً. لا أنكر أن صحبتي بعادل قد سلطت عليّ الأنظار أيضاً فهو تحول الى ظاهرة في المدرسة. «أتى عادل… راح عادل… اليوم عادل فعل كذا..» وأنا أكثر ما أحببت في شخصيته عفويته وطيبته وسرعة بديهيته. عدا عن ابتسامته التي تجمع بين الملائكية والشيطنة !
عادل شهاب كان يأتي الى المدرسة ببنطلون جينز ممزق (قبل أن تصبح موضة اليوم) وفي سيارته الهوندا الرصاصية. مرة طلبت منه الزميلات أن يأتي الى المدرسة بالثياب الرسمية. «بدنا نشوفك بالكرافات عادل.. بلييز؟». ضحك ووضع يده اليمنى على رأسه.
في صباح اليوم التالي، جلسنا امام مدخل المدرسة والملاصق لموقف سيارات يخص مالك من آل الداعوق. جاء بسيارته وركنها. صفقت الفتيات لرؤيته مرتدياً جاكيت رسمية وربطة عنق وهو خلف المقود. فتح الباب ونزل ببرودته المعهودة وإذ به مرتدياً «شورت» جينز يظهر ساقيه النحيلتين. كان مشهداً مضحكاً وصادماً.
في «الثانوية الإنجيلية في بيروت» نلنا مستوى تعليمياً جيداً، رغم أن الأجواء كانت بعد في البلد غير مستقرة. أعطوني منحة رغم أنني لست «مسيحياً»! وكانت لنا علاقات وتفاعل مع الأساتذة خاصة في مادتي الأدب الإنكليزي والأدب العربي والمواد الإنسانية. كان الناظر سام نجار (رحمه الله) يدخل قاعة الصف ليحل مكان الأستاذ الغائب، فيعطينا من زاده في اللغة الإنكليزية. يختبر قدراتنا. أكثر ما لفتني في شخصيته طريقة تعاطيه معنا. يحترمنا فيفرض علينا ما منحنا إياه. وعندما يستشعر بملل أصاب الطلاب، يطرح أسئلة أو يرمي نكتة. وهذه كانت حال الأستاذ جمال عون الخفيف الظل والمعلم المتفاني الذي لطالما رأيت في شخصيته شيئاً من شوشو.
عشنا تجارب وشهدنا أموراً في محيط المدرسة ونحن نجلس على تلك الحافة المشرفة على الطريق المؤدية الى مطعم «مروش». حدث يوماً أن توقفت سيارتان أمامنا ونزل منهما عدد من الرجال راحوا يكيلون لبعضهم السباب ويتبادلون العراك واللكمات خارج وداخل السيارات. فجأة توقف كل شيء: «تحري». «وانتوا…. نحنا كمان تحري». يومها تعلمت أن رجال الدولة عندنا لا يعرفون بعضهم. ومرة حصل إشكال بين صاحب الموقف وجيرانه فصرخ «أوعا ها…أنا لحمي مرّ…!!!». استغربت لتلك العبارة. ومن يريد أن يعمل منك ساندويش ومطعم مروش على بعد أمتار؟
وجدتُ في صديقي عادل ذاك البيروتي الشجاع الذي لا يخاف ولا يتشاوف. وقد اكتشفت ذلك ولمسته يوم كنا جالسين على الحافة بعد الدوام. اقترب منا شاب غريب عن المنطقة. وقف وجهاً لوجه أمام صديقي وشهر من تحت قميصه مسدس «بكر» فضيّ اللون ومن الحجم الكبير. وضع فوهة المسدس في بطن عادل وهدّده إن هو عاود المزاح مع زميلة لنا في الصف. صديقي لم يرجف له جبين. مما زاد من عصبية الشاب. لكننا كنا على يقين أنه لن يطلق النار. عادل كان متأكداً أنه لن يضغط على السلاح لأنه لو فعل، لرماه المسدس أمتاراً الى الوراء. صدق أبي: «السلاح بيد ال…. بيجرح».
لا تعرف أباك الا حين تصير أباً. صرت أباً لولدين وقررت تسجيلهما في المدرسة نفسها التي حضنتني في آخر سنواتي المدرسية. وفرحت كثيراً أن الثانوية قد افتتحت الفرع الرئيسي في بلدة كفرشيما القريبة من بيتي في المريجة. كفرشيما لها وقع خاص على الأذن وهي تعني بالسريانية «قرية الفضة» ولا تزال تحافظ على مظاهر القرية اللبنانية: بيوتها من الحجر القديم، السطوح قرميديّة حمراء، والبيوت محاطة بالحدائق والأشجار والزهور. والمدرسة تستريح على تلة. ومما زاد من فرحتي أن الأستاذ سام نجار أصبح هو مدير المدرسة فوق. درس على مقاعدها ابني وابنتي حتى وصلا الى الجامعة الأميركيّة في بيروت. ولا أخفي أنني كنت أفرح كلما صعدت الى كفرشيما لدفع قسط أو للاجتماع بالسيدة الناظرة مدام مخول، فأستغل الفرصة للمشي في شوارعها الضيقة وتنشق هوائها المنعش وتأمل بقايا القرية اللبنانية كما كانت منذ أجيال رحلت.
تمتلك كفرشيما سر وسحر العطاء والتربة الصالحة لولادة ونمو العبقرية الأدبية والفنية والموسيقية. فبينها والموسيقى والحرف ألف قصة وقصة. من مشاهيرها: ملحم بركات، عصام رجي، الشاعر الياس فرحات، منير عبد النور، حليم الرومي وابنته ماجدة، شبلي شميل، ناصيف اليازجي وابنته وردة اليازجية، سليم تقلا، وماري سليمان. ولا ننسى شيخ الملحنين فليمون وهبي الذي قالت عنه فيروز بعد رحيله: «كل يلي تركتن اشتاقولك… وكل يلي جايين لح يحبوك».
وأنا من الذين عشقوا فيلمون وهبي منذ مراهقتي حتى اليوم. فهو من ينقذني من حالة الاكتئاب أو هبوط المعنويات. ألجأ اليه في الساعات السوداء. لا أعرف لماذا دخل هذا الرجل الى قلبي منذ سمعت أغانيه: «سنفرلو ع السنفريان…. كلاشنكوف…( ) إمك يا لبنان». ودوره بشخصية «سبع» مع الرحابنة. وهبي المولع بالصيد في الداخل السوري، لم يكن غشيماً في أدواره… بل يستغشم. وهو لم يلعن البلد إلا حباً وعتباً. يكفي أن الرجل لم يدخل معهد موسيقي. يؤلف على طريقة الدندنة والنقر بأصابعه على الطاولة ويعطي اللحن للرحابنة كي يدوّنوه. «اسوارة العروس مشغولة من دهب»… و»يا دارة دوري فينا…» وغيرها من الألحان الخالدة من عقل من ذهب ولدته كفرشيما.
بعد محاولة الانقلاب الثاني للحزب السوري القومي الاحتماعي زمن الشهابية سنة 1961، وشيوع أخبار الاعتقالات العشوائية، غامر فيلمون وهبي (الشهابي الهوى) بنفسه ليلاً وقصد منزلي صديقيه الملحن زكي نصيف والرسام توفيق الباشا (المنتميين للحزب) كي لا يقعا في الأسر.
فيلمون وهبي الخالد في وجداننا الوطني وفي تراثنا الحضاري.. لم يكن حزبياً… لكنه بقي مخلصاً لإنسانيته ولسوريا الشعب والأمة.
شكراً كفرشيما. كل أول من آذار وأنتم بألف خير.
*روائي من لبنان.