الغارقون بالوهم الأميركي
} جمال محسن العفلق
عشرات الإدارات تعاقبت على حكم الولايات المتحدة الأميركية ومن يبحث في سياسة تلك الإدارات لا يصعب عليه اكتشاف أنّ كلّ الإدارات المتعاقبة تعمل لصالح حكومة عميقة تبحث فقط عن مصالحها الاقتصادية والعسكرية، وليس لدى الأميركي حليفاً دائماً أو عدواً ثابتاً، ولكن جوهر العلاقات الدولية لديه هو المصالح الأميركية (الشركات)، فالنفوذ الاقتصادي لصالح وحش الرأسمالية هو الأهمّ.
ولهذا ليس غريباً أنّ كلّ الحروب الأميركية كانت خارج حدودها ونتيجتها العسكرية في أكثر الأحيان خاسرة، ولكن النتائج الاقتصادية على الدول التي يُعتدى عليها تكون كارثية في أكثر الأحيان، فلا مشكلة لدى الأميركي في حصار شعب بكاملة وتجويعه وحرمانه من الدواء والغذاء ما دام هذا العدوان يحقق مصالح اقتصادية أو يعطل مشروعاً اقتصادياً منافساً كما حدث في العراق وسورية، فسياسة الإجبار والإخضاع للحكومات هي ما دأبت عليه الحكومات الأميركية المتعاقبة.
وأدوات الأميركي اليوم أصبحت معروفة، ففي المنطقة العربية تمتلك الإدارة الأميركية حكومات دورها وظيفي ومهمتها تنفيذ ما يُطلب منها دون قيد أو شرط، وهذا الدور الوظيفي تميّزت به حكومات الخليج التي كانت تنفذ ما يُطلب منها دون النظر الى مصالح أمنها القومي والوطني على حدّ سواء، وبمقارنة بسيطة بين إدارة ترامب المنتهية وإدارة بايدن الجديدة نجد المسافة الكبيرة والاختلاف الواضح في طريقة العمل الذي يدلّ على مدى تخبّط تلك الحكومات في التعامل مع البيت الأبيض وعدم فهم حقيقة أميركا بعد عقود من التحالف معها.
فبعد ممارسات ترامب النرجسية مع دول الخليج وتصريحاته التي استقبلتها تلك الحكومات بصمت يدلّ على القبول والموافقة على مضمونها وتنفيذ العدوان على اليمن بأبشع صوره ومحاصرة قطر وتحدث بنبرة عالية مع إيران وتمرير مشروع “صفقة القرن” التي أنتجت إعلان التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني.
اليوم يمارس بايدن الضغط بطريقة مختلفة ولكن لنفس الهدف وهو إجبار السعودية على إعلان التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني وفتح المدينة أمام وفود صهيونية تتجوّل بها كما تريد، مع إثارة مطالب قديمة للصهيونية تطلب فيها التعويض عن أملاك اليهود التي خسروها مع بداية الدعوة الإسلامية، وهذا ليس بخيال إنما نقاش يُثار كلّ فترة حول مصير تلك الأملاك المزعومة وحق التعويض المشروع.
واليوم تشهد منصات التواصل الاجتماعي طروحات تعبّر عن غرق كبير في الوهم، حيث يتحدث المغردون الخليجيون عن جملة حلول للخروج من كماشة إدارة بايدن تفضي إلى إعلان التحالف مع الكيان الصهيوني، حيث يبرّر هؤلاء أنّ المصالح المشتركة مع ذلك الكيان أكثر من المصالح مع أميركا، فالنقاط المشتركة بينهم وحسب الادّعاء لصالح الأمن القومي الخليجي وعلى رأسها محاربة إيران وخفض التوتر مع تركيا وقيادة الأمة العربية بالكامل، تحت عنوان عزل إيران والتعاون الاقتصادي الغير محدود مع الكيان الصهيوني والاستثمار المشترك على الأراضي الفلسطينية المحتلة لصالح تلك الحكومات والشركات مقابل إلغاء حق العودة وتجنيس عدد لا بأس به من أبناء الشعب الفلسطيني.
إنّ الوهم الذي تعيشه تلك الحكومات اليوم يثبت أنها تمارس دوراً وظيفياً محدداً وفق مصالح الدول الغربية ولا تملك من أمرها شيئاً، فالحرب على اليمن ومعاداة إيران وتمويل الجماعات الإرهابية في كلّ من سورية والعراق وليبيا، ودعم مجموعات معطلة للقرار الوطني تحت عنوان “دعم السنة” ما هو إلا غرق في حروب خارج الحدود وخوض حروب بالوكالة عن الكيان الصهيوني وأميركا، والنتائج على المدى المنظور ستكون كارثية بالنسبة لتلك الدول لأنها مرغمة على تسديد فاتورة تكاليف تلك الحروب التي زجّت نفسها فيها لصالح المشغلين.
فالوهم الذي زرعته الماكينة الإعلامية الخاضعة تماماً لتوجهات ماكينة الإعلام الصهيوني تقنع شعوب تلك المنطقة بأنّ العالم لا يمكنه التنفس او الحياة بدون الخضوع لأوامر الولايات المتحدة الأميركية ولا يمكن اتخاذ أيّ إجراء مقابل تلك الغطرسة الأميركية ولا بدّ من التحالف مع الكيان الصهيوني الذي يملك مفاتيح البيت الأبيض، تحت ذريعة الرضوخ لهذه المرحلة في انتظار عودة ترامب للحكم الذي سوف يعيد الدعم الغير محدود لتلك الدول ويطوي كل الملفات التي بدأ بايدن في إثاراتها.
فالقرار السيادي مصادر تماماً، وهذا قد يكون أمراً داخلياً لا يحق لأحد انتقاده ولكن الواقع يقول انّ تلك الدول ومنذ اندلاع فوضى ما سُمّي “الربيع العربي” كانت أداة أسوأ من الكيان الصهيوني في خاصرة الدول العربية، وموّلت حروب وجماعات امتهنت القتل والتدمير ومحاربة المقاومة وتسويق عبارة “دولة إسرائيل”.
وإذا لم تقنّن تلك الدول علاقتها بالولايات المتحدة وتتجه باتجاه دول أخرى مثل الصين وروسيا وتعيد رسم علاقتها بالجوار، وخصوصاً إيران، فإنّ تلك المنطقة مقبلة على نوع من الانقسام الكبير الذي سينتج منطقة ودويلات جديدة تائهة في هذا العالم.