حوار مع الشاعر العربيّ الدكتور محمد بن ناهض القويز
مصطفى بدوي – المغرب
تجربة شعرية وارفة تنسج موّالها بناي الدهشة وأبجديّة ترفل في كرنفال الاختلاف.. شعرية أخرى وقيثارة تغزل الجرح الوجودي بأنامل لا مرئية، وتستنطق شهادة الأرض بصيغتها ومفرداتها الخاصة.
إنها تجربة الشاعر العربي محمد بن ناهض القويز الباذخة وهي تعبر عن ماهيتها وكينونتها بطرائقها الخاصة في البوح. فلننصت لحفيف جوانحه وهو يشرع نافذة على أخاديد القصيدة وهي تُعيد النهر إلى مجراه والشعر إلى مسراه..
ماذا عن البدايات، عن دهشتك الأولى وأنت تلتقي بالقصيدة مدفوعاً بخيول وحدك قد تعلم أسرار جموحها؟
ـ ما أن بدأت الحركة في كنف أمي حتى شغلتني التهيئة الشعرية عن العبور المتوقع، فرفضت الخروج إلى الدنيا وكأني أرى في الرحم داراً لا يمكن تركها فاستعانوا بقابلة متمرسة لا تؤمن إلا بالخروج وفاوضتني على التخلّي عن وضعي المستعرض فقايضت ذلك بالتأسيس الشعري فخرجت صارخاً بأول حروفي، فولدت شاعراً.
كانت الوالدة تلحظ ذلك في بعض نمنمات الطفولة. تحوّلت مع الوقت إلى ترانيم على الورق، ثم جاءت أول قصيدة وطنية في الأول المتوسط. فرحتْ بها الوالدة أيما فرحة. لم تصدق أنني قائلها فاستحلفتني ثم قبّلتني فرحاً وابتهاجاً.
تتابعت القصائد الشعبيّة إلى أن أمسكت رسن القصيدة العربية الأولى. كنتُ، حينها، في السنة الثانية الثانوي، فقلت:
أيهجرني من بعد طول مودة
ظننتُ بأن البعد من بعدها ندر
وكانت تناهز حوالي اثني عشر بيتاً، وهنا كان القرار المصيري.
قد تتساءل ما هو القرار المصيري لشابٍ في الخامسة عشرة من عمره؟
القرار كان حاسماً ومحسوماً قررت أن لا أقرأ للشعراء إلا ما قررته المدرسة، أو ما جاء متناثراً في كتب الأدب والنقد رغم حبي للشعر. لم أخبر أحداً بقراري لكني التزمت به إلى أن نشرت ديواني الأول (الإبحار) وجهزت «شهادة الأرض». بعدها بدأت بقراءة دواوين الشعر.
وأنت تتّجه مهنياً نحو الطب كيف ظلت القصيدة تطاردك في ردهات الصخب كما في العزلة، فيما كنتُ تمعن في النأي بنفسك عن قراءة الشعر كيلا تسقط في فخاخه وفي ظلال الآخرين؟
ـ القانون الذي كان يحكم تلك العلاقة هو أنني ولدت شاعراً واخترت أن أكون طبيباً. الأولوية بلا شك كانت للتخصّص الذي تعهّدته حتى صار كالجبل الشامخ هامته فوق السحاب، إلا أنني لم اغفل الأدب وبالذات في شقه النقديّ، إذ كنتُ أقرأ لعز الدين اسماعيل وشوقي ضيف ومارون عبود، ولا تستغرب إن قلت لك شرح ابن عقيل لألفية «ابن مالك» وغيرهم.
لهذا، كان الجبل مليئاً بينابيع الشعر الصغيرة وبحيراته التي تستقي منها الصحف والمجلات حصتها على امتداد عملي. لم أكن أفكر في يوم من الأيام أن أجمع تلك القصائد في ديوان، فقد كنت منهمكاً في مراجعة «شهادة الأرض» وتجهيزها للنشر بتاريخ الأول من يناير 2001.
لكني فوجئت بالقراء ينبّهونني إلى سرقة قصائدي ونشرها في المنتديات. لهذا، أجلت مشروع «شهادة الأرض» وجمعت ما استطعت من قصائدي على عجل ثم نشرتها في ديوان الإبحار.
ما الشروط التي تحكّمت في ديوانك الأول وما الرهانات المختلفة التي عوّلت عليها من خلاله وأنت تضع خطواتك الأولى على درب الانتشار؟
ـ من الناحية العملية، أعتبر شــهادة الأرض هي ديواني الأول، وكنت أودّ أن تخرج مع بدايــة الألفــية الثالثة لكن ذلك لم يتحقق. بحثت عن فنان يســتوحي من النص لوحة تدشّن الغلاف. لم يرُق لي تصمـــيم الأســتاذ علي عثمان عام 2000، فأعطيــتها للفنان ابراهيم النغــيثر الذي أمضى أكثر من عامين يرسم منها لوحــات زيتــيّة بلغت 33 لوحة.
هنا، دخلت في حيرة شديدة حيث إن ورقة أوحت بأكثر من لوحة وبعض ورقات لم توح للفنان بشيء
فزادت حيرتي: هل أنشر النص من دون اللوحات؟
أم أنشره متبوعاً بالترجمة التشكيلية؟
أم أوزّع اللوحات حسب موقعها؟
مرّت السنون، ولم أستقر على قرار.
ثم تركت المجال للمصمّم، فأعطاني ثلاثة خيارات فطرحتها من خلال حسابي في تويتر. تركت القرار للقراء فجاءت كما اختاروا. لكنني طلبت نسختين. pdf إحداها باللوحات والأخرى من دونها.
أما تسميتها بـ «شهادة الأرض» فمخاضه أعسر من ذلك المخاض الذي خضته مع أمي.
كيف أطلت فكرة الشهادة برأسها عليك ولماذا تحديداً وسمت مطوّلتك بـ «شهادة الأرض»، علماً أنك كنت أمام بدائل أخرى كثيرة ممكنة على مستوى المناص (أعني العنوان)؟
ـ قصة الوسم طويلة زمنياً، فبعد أن تمت مراجعة القصيدة للمرة الأخيرة، بدأت ابحث لها عن اسم يحمل دلالاتها فقلت هي الرسالة. وبعد فترة، لم يرق لي ذلك الاسم فقلت اذاً هي الحقيقية، ولكن كلاسيكية الاسمين وابتذالهما جعلاني لا أقبل بآي منهما.
فنحتت لها اسم (البــهاية) من البــداية والنهــاية، وعُرفت به بين الأصدقاء لدرجة أن بعضهم كان يسمّيها البهائية.
لم يكن رضاي عن الاسم المنحوت بأفضل من سابقيه، ولكنّي استخدمته على أملأن أجد بديلاً له، ثم فكرت كثيراً فوجدت أن الأرض احتوت كل الأحداث وان هذه القصيدة ما هي إلا شهادة الأرض earth testimony.
فرحت بالاسم أيما فرح واستغربت تأخره كل هذه السنين.
شخصياً، ظللت معجباً بقدراتك الكبيرة على خلق طبقات نصية متراكبة داخل النص الواحد من دون التنازل مطلقاً عن درجة الشعريّة العاليّة ومنسوبها الجماليّ؟
ـ الفكر والخيال وهدايا النقاد والاستشراف المبني على معطيات منطقية أتاحت لي أن أقولب التركيبات الشعرية لتخدم النص، فيبدو وكأنه وليد لحظته، رغم عنفوان المشاعر وتناقضها. يظهر ذلك جلياً في متوالية الإرهاب والإنقاذ التي فصلت بينهما أربع سنوات كاملة، إضافة إلى المراجعة المستمرّة حيث حفظت كامل الملحمة عن ظهر قلب.
جنوحك نحو السرد له جذور في تاريخك الشخصي، لا سيما أن المحيط الذي ترعرعت فيه كان من المؤكد مفعماً بملعقة السرد وأدواته. فمن أين نزحت ميولك السردية التي ألقت بظلالها على أسلوبك الشعري؟
ـ ربما، تكون السردية في تركيبتنا الشعرية العائلية. فعندما تستمع لأشعار الوالد – رحمه الله – ستجد السرد حاضراً في بعض قصائده بصوره الجميلة وان لم يكن مطولاً. قد يكون للدور الذي مارسه في صباه من عرض ليليّ لتغريبة بني هلال والزير سالم اثر على شعره. من الناحية الوراثية، ربما، وهبني شيئاً من ذلك.
ما العلائق التي كنت تجدها دوماً بين مهنتك بوصفك طبيباً والإبداع الشعري؟
ـ علاقة تفاهم من دون تأثير مباشر، حيث يتنازل الشاعر كثيراً للطبيب احتراماً، حتى إذا ما تهيأت الفرصة للشاعر نسي أنه طبيب وسطر ما يريد. لكن الشاعر يشتكي أحياناً من جور الطب على الطبيب ويخشى عليه من صدإ الأيام.
ماذا عن مشاريعك المستقبليّة إبداعياً؟ وكيف يؤسس الدكتور الشاعر محمد بن ناهض للزمن بمفهوميه الفيزيقي والشعري؟
ـ الفكرة موجودة، وهي تشغل بالي منذ سنوات. أقلبها وأقولبها وأسبر أبعادها، فأقبل متحمساً وأستعرض المحادثات بين أبطالها، ثم أصرفهم وأعود للتفكير من جديد. لن أفصح عنها حتى تفصح عن نفسها.