معنى أن تكون نهضوياً… صفحات في كتاب خير الدين حسيب
} معن بشور
لم أكن أظنّ أنه يأتي يوم أرثي فيه الأخ الكبير والقامة المؤثرة ورفيق عقود من العطاء القومي والفكري والثقافي الدكتور خير الدين حسيب… فلقد كان الرجل منذ عرفته في أواخر سبعينيات القرن الماضي يفيض حياة وحيوية وعطاء حتى تخال أنه يودع رفاقه قبل رحيله…
من الصعب أن تجد للراحل الكبير صفة تحصره بها، فإذا قلت عليه مثقفاً فقط لا تعطيه حقه تماماً، فقد كان من المثقفين المسكونين بهموم أمّتهم وشعبهم، ومن الصعب أن تصفه بالمناضل فقط، فقد كان بين المناضلين حريصاً على أن يغذي نضاله بالفكر والعلم والبحث، ومن الصعب كذلك أن تصفه بالسياسي فحسب، خصوصاً في زمن العهر السياسي الذي تعيشه الأمّة، لأنّ السياسة عنده كانت رسالة بكلّ ما للكلمة من معان ودلالات،
أن تصف خير الدين حسيب هو أن تذكر اسمه فقط، وهو الاسم الجامع لكلّ الصفات معاً، بل هو الرجل الذي ربط اسمه وحياته بمشروع النهضة العربية، وأحلامه بوحدة أمّته العربية، وأسّس وعمل بمؤسسات ستبقى حاملة لنهجه وفكره ورؤيته.
في أواخر السبعينيات من القرن الفائت، وكانت الحرب الأهلية مشتعلة في لبنان، رنّ هاتف منزلي فإذا بالدكتور خير الدين حسيب على الخط يدعوني إلى اجتماع به في مقرّ المركز، آنذاك في شارع السادات، حيث لم يكن يبعد عن منزلي أكثر من خمسين متراً..
كنت أسمع الكثير عن الدكتور خير الدين حسيب، وواكبت أواخر ستينيات القرن الفائت الدور الذي قام به مؤسس “البعث” الراحل ميشيل عفلق من أجل الإفراج عنه يوم كان سجيناً في سجون النظام في العراق بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، وكان عفلق يحمل للرجل احتراماً كبيراً، خصوصاً لفكره القومي ولدوره في رئاسة المؤسسة الاقتصادية العراقية والبنك المركزي العراقي في مواجهة الفساد ومحاربة شركات النفط وإحياء هيئة النفط العراقية، لذلك فرحت بهذا اللقاء وتشوّقت إلى معرفة سببه…
وحين التقيته في مكتبه في الطابق التاسع من بناية “برج السادات”، كان حاراً في استقباله، ودوداً في حديثه، وقال: “أخ معن، أتابع مقالاتك، وأدرك عمق التزامك الوحدوي، وأتمنّى عليك أن تعد لمجلة “المستقبل العربي” مقالاً عن “التنظيم القومي الموحد” مشيراً إلى أهمية إحياء فكرة الحركة العربية الواحدة التي بدأ العمل من أجلها مع نخبة من خيرة رجالات الأمّة برعاية الرئيس الخالد الذكر جمال عبد الناصر في أواسط ستينيات القرن الفائت.
فرحت بهذا “التكليف “القومي وأحسست أني أمام صنف جديد من القادة لا يكلّ ولا يملّ في اكتشاف أصحاب الالتزام الوحدوي لتفعيل طاقاتهم، وأعددت ذلك المقال من وحي تجربتي في العمل القومي آنذاك، واستمرت العلاقة بيننا على مدى 45 عاماً، كنت أزوره فيها بشكل شبه يومي زمن الحرب، تماماً كما كنت أزور جاراً آخر لي هو الراحل الكبير الأستاذ منح الصلح، فقد كان منزلي بين مكتب حسيب، ومنزل الصلح، في مثلث أطلق عليه البعض لقب “المثلث القومي”، وكنت أفضل تسميته “بالمربع القومي” حيث لم تكن بعيداً عنا مكاتب “الشهيدة” “السفير” وعلى رأسها العروبي الكبير والقلم الرمح طلال سلمان…
في تلك الجلسات التي كان يشترك فيها أحياناً رفيق العمر الأستاذ بشارة مرهج، كنا نتداول أولاً في شؤون العمل القومي والوحدوي العربي، وتخرج أفكار لندوات ومبادرات واتصالات، إذ كان الرجل الكبير يشعر بالضيق إذا لم يملأ حياته بواحدة منها..
كان يعتزّ أنه لم يغادر لبنان الذي أحبه كما يحب العراق موطنه الأصلي.. كما كان حبه لفلسطين التي لم يفقد البوصلة تجاهها أبداً، لذلك ورغم شدة الحرب على لبنان لم يتوقف عمل المركز ولا إصداره “المستقبل العربي” وتوزيعها في كافة أقطار الوطن العربي (التي تسمح بدخولها أصلاً)، رغم كلّ ما مرّ ببيروت ولبنان من مصاعب، وكان خير الدين حسيب حركة لا تهدأ من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، يبحث عن الكفاءات العلمية والفكرية، النضالية في كلّ أقطار الوطن العربي ويدعوها إلى الكتابة في مجلة المركز “المستقبل العربي”، أو النشر في إصداراته، أو المشاركة في ندواته وصولاً إلى المؤتمرات القومية، والقومية – الإسلامية التي كان أبو طارق من أبرز مؤسسيها في النصف الأول من تسعينيات القرن الفائت..
كان خير الدين حسيب مسكوناً بنهضة العرب، ولم يكن يجد طريقاً للمنطقة إلا عبر الوحدة التي كانت أول عناصر المشروع النهضوي العربي الذي أطلقه في ذكرى الوحدة المصرية – السورية (22 شباط/ فبراير 2010) بعد أن عمل عليه لعشر سنوات مع نخبة من رجال الفكر والنضال من كافة أقطار الأمّة وتياراتها ومنابتها، وكان مؤمناً أن لا طريق لوحدة الأمّة إلا عبر بناء “كتلة تاريخية” من كلّ تياراتها الملتزمة بالنهضة أياً كانت خلفياتها العقائدية، فالوحدة الشعبية العربية كانت طريقه للوحدة العربية أياً كانت أشكالها الدستورية، وقد أرادها “وحدة اتحادية” تحترم خصوصية كلّ قطر أو جماعة، وحدة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، لذلك كان من أول إنجازات المؤتمر ندوة تاريخية عن “القومية العربية والإسلام”، في أوائل الثمانينيات من القرن الفائت، ثم “أزمة الديمقراطية في الوطن العربي” التي لم يجد دولة عربية تستضيفها بعد عام 1982، فعقدها المركز في قبرص، وانبثقت عن الندوة “المنظمة العربية لحقوق الإنسان” وعلى رأسها رفيق عمره المهندس أديب الجادر، وأمينها العام وزير الإعلام في عهد جمال عبد الناصر الأستاذ محمد فائق، وداعمها الرئيسي الشخصية الكويتية القومية جاسم القطامي، وأهمّ أركانها أحمد صدقي الدجاني (فلسطين)، عبد الرحمن اليوسفي (المغرب)، منصور الكيخيا (ليبيا)، جوزف مغيزل (لبنان)، وآخرون.
كان طيلة عمره يحرص على لمّ شمل العرب، وعلى إغلاق كل الثغرات بين الأقطار العربية، وبين العرب ودول الجوار، ومن يقرأ عناوين المؤلفات التي كتبها، والندوات التي دعا إليها المركز، وحلقات النقاش التي نظمها، لا يجد صعوبة في أن يلاحظ أنّ ما من همّ عربي أو إقليمي ألا وسعى إلى معالجته وإحاطته علمياً وفكرياً واستراتيجياً، وكان حريصاً أن تكون الجلسة الأخيرة من كلّ ندوة يدعو إليها المركز، بعنوان “ما العمل؟” انطلاقاً من إدراكه أنّ التحليلات النظرية على أهميتها، لا تغني عن مقترحات عملية للمعالجة..
ثنائية الفكر والعمل، ثنائية النظرية والممارسة، كانت حاضرة دائماً عند خير الدين حسيب الذي تراه مثقفاً كبيراً بين الممارسين والسياسيين، وممارساً مؤثراً بين المثقفين والمفكرين، مدركاً أنّ العمل بدون أفق فكري، فوضى، والفكر بدون محتوى عملي، ضياع…
التقى في حياته العديد من الزعماء العرب، بدءاً من جمال عبد الناصر الذي اعتبره من أقرب الشخصيات العربية قرباً له، إلى صدام حسين الذي احترمه كثيراً حين رآه جندياً في خدمة العراق زمن الحصار والحرب والمقاومة متجاوزاً كلّ ما تعرّض له من اعتقال وتعذيب على يد أجهزة النظام، مؤكداً أنّ وطنية الوطني وعروبة العربي تبقى فوق كلّ اعتبار ذاتي أو حساسية شخصية أو حقد قاتل.. وكان صديقاً للرئيس حافظ الأسد الذي كان يمضي معه الساعات للاستماع إلى آرائه وتحليلاته، بل قيل يوماً إنه طلب موعداً من الرئيس الأسد في صيف 1989، ولمّا تأخر الجواب يوماً واحداً قبل مغادرته مطار دمشق (يوم كان مطار بيروت مغلقاً)، أرسل الرئيس الأسد من ينزله من الطائرة واستقبله لساعات حيث أقنعه الدكتور حسيب باستقبال مبعوث المبادرة العربية لحلّ الأزمة اللبنانية الأستاذ الأخضر الإبراهيمي رغم ملاحظات القيادة السورية على أدائه.. وبعد الاجتماع انفتحت آفاق الحلّ في لبنان وبدأ التحضير لاتفاق الطائف.
في كلّ لقاء كان أبو طارق صريحاً ولا يعرف المجاملات في ما يؤمن به، وكان الرؤساء والقادة والزعماء العرب، لا سيّما القادة الفلسطينيون أنفسهم، يستمعون إليه باحترام وإصغاء، لأنهم يدركون أنه ليس للرجل مصلحة خاصة في ما يقوله، بل أنّ ما يحركه هو حرصه على مصالح أمّته ومستقبل أبنائها..
من يدخل إلى مكتب خير الدين حسيب في بناية النهضة في رأس بيروت يرى أمامه لوحة تتضمّن تعبير “الخبز مع الكرامة” وهو تعبير يختصر سلوك الرجل والمدرسة الفكرية السياسية التي ساهم في إطلاقها وهي مدرسة العروبة الجامعة والمستقلة مما كلف المركز الكثير من منع منشوراته من الدخول إلى بعض الأسواق العربية، أو حصاراً مالياً خانقاً كاد أن يهدّد المركز بوجوده، كما سائر مؤسسات العمل القومي المستقلة في وجودها..
رغم ما يبدو على خير الدين حسيب من حدة وحزم وتشدّد في التعامل مع بعض من عملوا معه، إلا أنه كان مؤمناً بالحوار طريقاً لحلّ كافة المشاكل التي تواجهها الأمّة، سواء بين أفرقاء العمل الوحدوي العربي بكل منابتهم الحزبية والسياسية، أو بين تيارات الأمّة، القومية المنفتحة، والإسلامية المستنيرة، واليسارية العروبية، والليبرالية الوطنية، حتى أنه أطلق تعريفاً جامعاً لـ “القومي العربي” اعتبر فيه ان كل مؤمن بالمشروع النهضوي العربي وكل ملتزم به هو قومي عربي… فبات المؤتمر القومي العربي جامعاً لشخصيات من كافة هذه التيارات.
وحين أطلق عليه في أحدى المجلات العربية لقب “رئيس جمهورية المثقفين”، كان المقصود الإشارة إلى دوره في جمع المثقفين العرب من شرق الوطن الكبير إلى مغربه مجدداً بذلك تقليداً عربياً عريقاً حيث الكثير من قادة المغرب الكبير كانت لهم أوثق الصلات بأقطار المشرق العربي، وحيث كان لمثقفي المشرق العربي وفنانيه وأدبائه المكانة الكبيرة لدى أبناء المغرب العربي الكبير، ويكفينا دور المغاربة في حروب الأمّة ضد الفرنجة، ومكانتهم في القدس وحرمها الشريف لكي يدرك المرء أهمية دور الدكتور خير الدين حسيب في ربط المغرب بالشرق، والمشرق بالغرب..
أما لبنان، فقد كانت له مكانة في قلب “أبي طارق” وعقله لا تقدّر، وكان يقول لكلّ من ينصحه بمغادرة لبنان أيام الحرب، ونقل المركز إلى أيّ عاصمة عربية. “لبنان فتح صدره لي في أيامي الصعبة، فكيف أتركه في أيامه الصعبة”، فكان له في وطنه الثاني لبنان مكانة مميّزة استحق معها أن يمنحه الرئيس المقاوم العماد إميل لحود أرفع الأوسمة اللبنانية تقديراُ لدوره، فيما سعى الرئيس ـ الضمير الدكتور سليم الحص إلى الطلب من الرئيس ميشال سليمان منحه الجنسية اللبنانية نظراً لخدماته الجليلة في مجال الثقافة، انطلاقاً من لبنان وعاصمته بيروت..
كان خير الدين حسيب – رحمه الله – أمّة في رجل، وستبقى له بصماته في حياة أمّته وحركتها القومية التحررية التقدمية.. وحين نتحدث عن المقاومة الثقافية لا نستطيع أن نتجاهل خير الدين حسيب أحد أبرز أعمدتها، وحين نتحدث عن إعلاء الشأن الوطني والقومي فوق أيّ اعتبار نذكر وقفات لخير الدين حسيب في معظم قضايا وطنه وأمّته..
كان الرجل نهضوياً لذلك كان وحدوياً واستقلالياً وتنموياً، وديمقراطياً، نصيراً للعدالة، مجدداً لحضارة أمّته ومقاوماً لكلّ أعدائها… رحمه الله