الحياد… عن دولة المواطَنة
د. محمد مشيك
تأسّست دولة لبنان الكبير وفقاً لمصالح طائفية معيّنة، وبعد مرور المئوية الأولى لإعلانها، كانت مسيرة حياة هذه الدولة على حياة حقوق المواطنين وطموحاتهم. العدل في لبنان نسبي بين الطوائف، وأمّا المواطنة فغير موجودة، بعد أن صدرت قوانين وتوطدت أعراف أقرّت مبدأ الطائفية السياسية التي جذورها تعود إلى زمن السلطنة العثمانية.
منذ التأسيس الفعلي للكيان اللبناني في العام 1926، دخلت حقوق المواطن في متاهات الإنتماء الطائفي، حيث إنّ الطائفية السياسية كُرّست دستورياً بموجب المادة 95. من دستور 1926.
ومع التعديلات الدستورية لعام 1990، عُدّلت المادة 95 لتنصّ على التالي: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطّة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضمّ بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية». حتّى هذه اللحظة، بالرغم من الأصوات التي تستشرف المستقبل الداعية إلى إلغاء الطائفية السياسية وتأسيس لدولة المواطنة التي يمثّلها فكر الإمام موسى الصدر، لم يلق الرئيس «نبيه بري» تجاوباً بسبب الحسابات الطائفية الضيّقة لبعض الأفرقاء.
في يومنا الحاليّ نعايش مخاضاً عسيراً للكيان اللبناني، غير مشابه لمرحلة المخاض التي أوجدت الجمهورية اللبنانية المستقلة عام 1943، حين تخلّى المسلمون عن فكرة الوحدة مع سورية، مقابل تخلّي المسيحيين عن الحماية الفرنسية. هذه المعادلة أصبحت اليوم مختلفة فتمثّلت بتخلّي المواطنين عن طائفيتهم السياسية وليس طوائفهم.
الأمر المدهش في لبنان اليوم هو الوعي الذي انتشر بين اللبنانيين وبداية تحرّرهم من اللباس الطائفي الذي اكتسوا به لمدّة طويلة من الزمن، فلم ينتظروا تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية. تبعاً لذلك تحرّك داخل كلّ لبناني ذلك اليقين بدولة تجمع الجميع تحت سقف الحقوق والمؤسسات، أعني بذلك دولة المواطنة. في دولةٍ كهذه، لا تفرقة ولا تمييز بين أبناء الدّم الواحد، فمعظم العائلات اللبنانية تنحدر من نفس الجدّ الأكبر، وأبناؤها يتبعون إحدى الديانتين سواء المسيحية أو الإسلامية، وغالبية هذه العائلات شرقية الانتماء.
إذاً فأيّ حقوقٍ تكون مكتسبة حين تنتهك حقوق الإنسان والحريات الأساسيّة؟ أيّ حقوقٍ ينادى بها بإسم التعايش والدين تكون بإسم الانتماء المناطقي حصراً؟ الحقّة لا تنادي بالتمييز والتفرقة جميعنا أبناء الله، أيّ ملتقى للحضارات في ظلّ انتهاك واضح للحقوق المدنية والسياسية بإسم التعايش، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية بإسم الدين، والحقّ في التنمية بإسم الانتماء المناطقي. كيف ترغب طائفة بحكم باقي اللبنانيين (سواء كانوا من نفس الدين أو من خارجه)، وترفض أنّ يشتركوا معها في بناء دولة المواطنة؟ من فوّضكم لاكتساب هذه الحقوق، ومن خوّلكم حقّ تصنيف النّاس؟ فمن ينادي بحقوق طائفة، يتمترس خلف هذا اللباس ليستأثر بالحكم لنفسه. فنحن كلبنانيين ترعرعنا على فكرة غنى لبنان بتنوعه الطائفي، لكن خسارة لبنان الكبرى هي بسياسته الطائفية.
تقوم مصلحة أيّ دولة، على توفير جميع الحقوق لمواطنيها، وبعدها بترك أمر الطائفة للمواطن. أعطي مثالاً على ذلك دستور الولايات المتحدة الأميركية الذي يكفل حريّة المعتقد، إلاّ أنّ أهمّ حماية هي حقوق المواطن وتعامل الدولة معهم كمواطنين سواسية. هذه الحقوق التي يشترك فيها المواطنون بمختلف انتمائاتهم الدينية واختلاف انتمائاتهم العرقية والقوميّة.
لقد كفلت معظم المواثيق والعهود الدولية حقوق الإنسان، منها الدستور اللبناني ومقدّمته. إنّ أهمّ ما يميّز لبنان سلبياً عن باقي الدول، هو تصنيف هذه الحقوق تبعاً للإنتماء الطائفي، وليس على أساس الإنسانية. على سبيل المثال لا الحصر، لا يمكن لأيّ فتاة لبنانية محجّبة، دخول سلك القضاء اللبناني، ذلك فقط لأنّها محجّبة. أين الحقّ بالمساواة وحريّة المعتقد؟ خصوصاً أنّ كفاءات مهمّة ضمن هذه الفئة من الفتيات تدمَّر بسبب الفكر والمسلك الطائفي، وبطبيعة الحال لا يسمح لهنّ بالدخول بأهمّ سلطة موجودة التي من المفترض أنّ يلجأن إليها للذوْد عن حقوقهنّ وحرياتهنّ!
خلاصة الأمر، تعتبر الطوائف المؤلّفة للكيان اللبناني أقليات في حال وقوف طائفة بجهة مغايرة للجهة التي تقف فيها باقي الطوائف. والمتابع لمنحى الجبهات السياسية يتبيّن له وجود شرخ بين الأحزاب السياسية الممثّلة للمسلمين ونفس الأمر بالنسبة للمسيحيين، بل نرى تحالف جبهات عابر للطوائف قائم على المصالح المشتركة لكّل جبهة سياسية، فماذا ننتظر لبناء دولة المواطنة؟
نستنتج من كلّ ذلك أنّه بسبب الطائفية السياسية، أصبح المواطن وحقوقه في جهة، والدولة الطائفية في جهة أخرى، حيث إنّ الحياد تامّ بين دولة الطوائف والمواطن الفقير.
وبسبب المحسوبيات الطائفية، يهاجر شباب لبنان إلى الخارج، علّهم يجدون ما يطمحون إليه.
وبسبب التوازن الطائفي أيضاً، لا يمكن للشباب أنّ يعيّنوا في أدنى وظيفة في سلسلة الفئات الوظيفية في الدولة اللبنانية،
أختم بالقول إنّ وعي اللبنانيين سبق رجال الطوائف نحو بناء دولة المواطنة. لهم أتوجّه: «لنا لبناننا اللاطائفي، ولهم لبنانهم الطائفي، لنا العيش المشترك ولهم المذهبية».