العربي وأيّام ميشال الزاهية
} الشاعر مصطفى بدوي/ المغرب
كان العربي يكره هتلر لأن ميشال كان يكره هتلر.
كان العربي يسخر من ديغول لأن ميشال كان يسخر من الجنرال صاحب الأنف الأفطس.
كان العربي كلما سألته عن «ميريكان» يوصيني أن أتوجّس منها حذراً، لأن ميشال كان يتوجس من عربدة ميريكان.
كان العربي يحب عبد الناصر، لأن ميشال كان قد شرح له أن (ناصر) قد مرغ الهيبة الاستعمارية في العدوان الثلاثي وخرج مرفوع الرأس.
كان العربي يحبّ الخطابي وعمر المختار ونهرو وتيتو ومحمد الخامس وعبان رمضان والعقيد لطفي لأسباب لا يعلمها إلا ميشال.
كان العربي يكره الانتخابات لأن أصحابها لم يكتفوا بتلويث البرّ والبحر بل أصرّ هؤلاء الـ»عريبان» على تلويث الطرقات والجدران والأسواق بأوراقهم الرخيصة وصورهم المنافقة الحقيرة.
كان العربي لا يومن بالنشرة الجويّة لأن مآلات الطبيعة ومصائر العباد شأن إلهي لا يعلمه إلا الله.
كان يومن أن ميشال سيدخل الجنة حتماً لو نطق بالشهادتين لنقاء سريرته وإنسانيته الواسعة.
كان العربي يمقت النوم، لأنه سمة الكسالى والخاملين و»الشمايت».
كان يتحفظ من سماع الموسيقى، لأنها تفقد الرجال هيبتهم والنفوس حرمتها والوقار طقوسه.
كان يرى نفسه امتداداً للأرض أو هي امتداد له – سيان – فهي وحدها (الأكواريوم) الذي لا يمكن أن يتنفس خارجه.
كان يحكي لي عن ذلك الحبل السّري الذي يصله بالارض وكيف أن للأرض لغة لا يفهمها الا الراسخون في الارض الذين خبروا أحوالها وتقلباتها، أوجاعها ودموعها، أفراحها وأنساغها.
كان يسهو مراراً وهو ينظر إلى التراب ويهدهده وكأنهما في حوار لا يفقهه سواهما.
اذكر جيداً ذلك الألم الذي استبد به في بداية الثمانينات حين قطعوا، بدعوى الجفاف شرايين وادي سيدي يحيى الذي كانت تتغذى من مياه سواقيه البساتين والضيعات القريبة والبعيدة على حد سواء ليدفعوا بسطاء الملاكين الى الإفلاس عن سابق مكر ومقاس..
جفّت البساتين وتضرّرت القطعان.. تعالت الأشجان وتهاوت الأشجار. كانت الأرض على موعد مع المسطرة والبيكار، فقطعت الأوصال وتهدلت بطون وجاعت بطون…
كان العربي يعود إلى ضيعة «تيسو» كلما استبدّ به الحنين الى الأرض أو إلى أيام ميشال، ليعود القهقرى الى سنوات الأربعينيات وما تلاها من أيام وليالٍ، فصول ومشاهد، أوهام وأحلام، قهقهات ميشال، أعطاب التراكتور ولعلعة الرصاص في جبل عصفور كلما اشتبك مجاهدو جبهة التحرير الجزائريّة مع المحتل الفرنسي.. يتذكر العربي تلك الطلعات الجوية الفرنسية في جبل عصفور والطائرات «تقنبل» أو تطارد فتية ثورة أول نوفمبر الذين أقسموا بالماحقات الساحقات والجبال الصاعدات النازلات على أن تحيا الجزائر بعدهم حرة كريمة، لتنهار أمام عيون العربي كل أحلام هؤلاء الشهداء الذين مروا ذات عنفوان من ضيعة «تيسو» نحو الشهادة.
يذكر العربي تلك الوجوه كلها وهو يمسح جبل عصفور بنظرة حزينة مسترجعاً كل المفارقات التي تأبى على الفهم والاستيعاب وحين يتعب يصلّي لينسى الحياة الفانية.
أعرف أن العربي قد رحل يوم رحيل ميشال سنة 1974، ليلتئذ أجهش بمرارة لا تتخيّل. أجهشت أمي، الله يرحمها، وبكينا كلنا رحيل ميشال.
أكيد أن العربي انزوى في زاوية ضيقة أو واسعة من ذاكرته ليرحل في قوارب شريط يناهز ما يقارب أربعة عقود من ملازمة ميشال.
كان ميشال قد رحل بعد أن التهمت ماكينة حادة أصابع يديه بعد عودته النهائيّة الى فرنسا. والأغرب ان العربي لم يكن يعرف أن اصابع قدمه ستبتر لاحقاً بسبب «الغرغرينا» التي أودت به بعد 36 سنة من رحيل ميشال، وكأنهما كانا على موعد مع البتر. البتر الذي طال الارض قبل أن يطالهما. البتر الذي مورس على الأرض أولاً فالإنسان ثانياً !!!
رحل ميشال فترك العربي يتيماً أعزل، أو هكذا تهيّأ لي على الأقل.. أكيد أن ميشال تذكر العربي وهو يودع الدنيا هناك على فراش الموت، لأن العربي تذكر ميشال وهو يحتضر.
قد يكون ميشال ابتسم قبل شهقته الأخيرة لطيف العربي، لأن العربي ابتسم لطيف ميشال، أو هكذا تهيأ لي شخصياً على الأقل، وهو يطلق شهقته الأخيرة.