بين قصيدتي التّفعيلة والومضة.. في سمات التقاطع والتباين
} كامل فرحان صالح*
يمكن وضع خيط رفيع بين قصيدة التّفعيلة وقصيدة الومضة التي هي من أسس الأدب الوجيز. لكن من الثابت، أن مساحة التلاقي بين هذين النوعين واسعة جدًا، ويصعب على المرء وضع سمات نهائيّة تبرز التباين بينهما؛ فإذا كانت قصيدة التّفعيلة قد بقيت على صلة ما بالمثال العموديّ ولا سيما من نواحٍ عدّة: التّفعيلة، والرّوي والقافية على الرغم من تنوّعها فيها، وأحيانًا اختفاء تكرار الرّوي والقافية في بعض القصائد، فإنّ قصيدة الومضة قد قطعت هذا الصّلة نهائيًّا، فغابت عنهما سمات العموديّة الشّعريّة العربيّة، لتبقى متصلة بهذا التراث العربي باللغة، وباستحضار رموزه وأساطيره وحكاياته… من دون وجود صلة شكليّة.
ويمكن للمرء ملاحظة بعض سمات قصيدة التّفعيلة وقصيدة الومضة، والتمايز بينهما، عبر الآتي:
استخدام التّفعيلة كوحدة موسيقيّة يكرّرها شاعر قصيدة التّفعيلة بحريّة، فلا يتقيّد بطول الشطر الشعري، إنما بحالة الاندماج الشّعوريّ الذي يريد تسجيله، فلم يتّخذ من بحور الخليل قوالب جامدة يصبّ فيها شعره، إنّما ترك لنفسه حريّة الاختيار من بحور مستعملة، لتكون طينة أصليّة طيّعة بين يديه، يشكلها تشكيلات تتناسب مع قدرته وحالته. ولم تعُد القصيدة مجرد أبيات تتوالى بشكل موسيقي تقليديّ معين، إنّما أدخل عليها شاعر قصيدة التّفعيلة من التّعديلات في الوزن ما رآه ضروريًّا متناسقًا مع أحاسيسه ومشاعره، معتمدًا على النّشاط الشّعوريّ، والتّموجات النفسيّة، كما لم تعد للقافية تلك الأهمية التي كانت لها في الشّعر الكلاسيكي، بعد أن أصبحت تنبع من داخل القصيدة. فبالوصول إلى هذه الموسيقى الدّاخلية، تتعدد استخدامات القافية بصورة تتفق مع طبيعة التعبير والموقف، إذ لم تعُد موسيقى الرّوي كافية لتنمّ عن إيحاءات النظم الداخليّ.
في المقابل: خطا شاعر قصيدة الومضة خطوة متقدّمة في هذا المسار، بعد أن تخلى عن «التّفعيلة» و»القافية» و»الرّوي»، ليكتشف في لغة النّثر قيمًا شعرية، يستغلها لخلق مناخ يعبر عن تجربته ومعاناته، وقد استخدم في قصيدته صورًا شعريّة تتوافر فيها الشّفافية والكثافة في آن واحد، وعوّض انعدام الوزن التّقليدي بإيقاعات يمكن التماسها من بنية القصيدة نفسها، عبر مشهديّة الاختلاف والتّماثل والتّناظر فيها، لكن من دون جعلها قواعد ثابتة تكبّل قدرات الشّاعر على الخلق الدّائم للجملة مع تموجاتها الصّوتيّة بموسيقى صياغيّة تحسّ ولا تُقاس، فقصيدة الومضة وإن شرّعت الباب للمطلق، ولطرق أبواب الغوص في معنى المعنى، إلا أنّها تبقى بحاجة إلى مشهديّة تناغم عناصر الإيحاء، والبُعد التّخيليّ التشاركيّ، وطاقة المفردة، والاتّساع الدّاخلي للغة، والرّؤيا، والدّائرة المتشظيّة، من دون نسيان مكوّناتها المرتكزة على الأدب الوجيز عمومًا، وهي: التّكثيف، والإيجاز، والاتّساع الدّاخليّ للطاقة الشّعوريّة، وفتق آفاق التّخيّل، وكسر أنماط الحواس، والمعنى يُحدِّدُ شكله، والدهشة، والمفارقة.
من هنا تصبح البنيّة الإيقاعيّة في قصيدة الومضة بنية ذاتيّة خاصة، بعدما ألغى الشّاعر في قصيدته كل الشّكلية الموسيقيّة الخارجيّة، واعتمد حصرًا، على الموسيقى الدّاخليّة التي تنبع من الحدس بالتّجربة الشّعريّة، تلك التّجربة التي خلخلت كل النّظام الشّعريّ القديم المتوارث، فحلّ تفجير المفردة الشّعريّة محل التّسلسل، وحلّت الرؤيا محل التفسير، وحلّت مساحة البياض/الصّمت محل الشّطر الثّاني في القصيدة؛ فإذا كان الصّدر/السّطر للشّاعر، فإنّ العجز/البياض للقارئ، وبذلك تُرسِّخ قصيدة الومضة العمليّة التّشاركية بين الثّلاثيّة المقدّسة: المبدع (الشّاعر) – النّص (القصيدة) – القارئ (المتلقي).
أما في ما عدا ذلك، يلحظ أن الصلات بين سمات القصيدتين، كثيرة، ومنها:
الانتقال الكامل من وحدة البيت إلى الوحدة العضويّة أي الحالة الشّعوريّة الوجدانيّة التي يخضع لها الشّاعر، ويكتب بتأثيرها، وقد لا تقتصر على قصيدة واحدة، بل تنسحب على ديوان يصطبغ كله بحالة نفسيّة معيّنة.
كذلك خلق وظيفة جديدة للتدوير، إذ لم يعُد محصورًا بربط الشطر الأول مع الشّطر الثاني (أي الصدر والعجز)، بكلمة حروفها موزّعة بين الاثنين لإتمام الوزن، إنما أصبحت له وظيفة تعبيريّة تنبع من حاجة طبيعية للتجربة الشّعريّة، وتستهدف في المقام الأول تحقيق علاقة عضوية بين المعنى والموسيقى الداخلية، وتحقق في الوقت نفسه، المواءمة في البناء النفسيّ للقصيدة، إذ أصبح التدوير يمتدّ حتى يشمل القصيدة كلها، ويعمل في إحدى مهماته الشكليّة على تكريس السطر الشعريّ، بوصفه بديلاً مهيمنًا للبيت الشعري التقليديّ، كذلك تحقق للقصيدة وحدة نغمية كليّة، وتسمح في الوقت نفسه، بتعدّد النغمات وتنوّعها بين سطر وآخر.
يتشارك شاعر قصيدة التّفعيلة وشاعر قصيدة الومضة أيضًا، في مواجهة مساحة السواد/الصوت في النص (أي المساحة المكتوبة)، بالقلق نفسه اللذين يواجهان به البياض/الصمت (أي المساحة الفارغة). فبنية كل من التّفعيلة والومضة، يشوبها قلق دائم، وتحدو شاعرها رغبة في تحطيم التقاليد البصرية التي اعتادها القارئ في القصيدة العموديّة، فجعلت عينيه مركزتين على بنية مكانيّة تمنحه اطمئنان العارف مسبقًا، فتدعم هذه اللحظة، أي لحظة النظرة لهذا الشكل، شعور التوازن الداخلي الوهمي لديه. أما في القصيدة الحديثة وتحديدًا في قصيدة الومضة، فلا بنية مكانية شكلية ثابتة، وبالتالي يقع هذا «العارف مسبقًا» في الحيرة، تحدوه رغبة الاكتشاف، فيجد نفسه يدخل في تراكيب تتشظّى، تمتد إلى عالمه الداخلي محدثة الخلخلة التي تخلق في الوقت نفسه دوائر أخرى من التشظيّ، فيدفع هذا التركيب/التراكيب بمسلّمات «العارف مسبقًا» (القارئ) وبحواسه المطمئنة، وبسكينته المرتكزة على مورثات راسخة، نحو سحر الشك، وشغف البحث عن مخرج للمتاهة/المتاهات، بعد أن يبدأ في قرارته يشعر بوجود أبعاد لا حدّ لها لفاعلية الحواس على مستويي التشخيص والتجسيد، ولقدرتها على توليد انزياحات دائمة بإمكانها تشريع الأبواب على عوالم مدهشة من المعنى في المعنى.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة، وعضو في ملتقى الأدب الوجيز – بيروت.