قامة موصليّة عتيدة
زياد كاج*
مسقط الرأس كان في الموصل في الأول من آب 1929. تُلقب المدينة “أم الربيعين” لاعتدال مناخها و”الحدباء” لاحدداب نهر دجلة في وسطها. هي مدينة أبو تمام، إبن كثير، زها حديد وكاظم الساهر. مشوار العمر المديد كان مضنياً، مثمراً، معطاءً كحقل كريم لا يعرف نهايته إلا زارعه. من بغداد، الى جامعة كامبريدج في لندن، الى حاكميّة البنك المركزي العراقي، الى عتمة السجن لتسعة أشهر، وصولاً الى بيروت… كل العمر كان للعمل تحت شعار: “الخبز مع الكرامة”. الّلقب: “الأب الروحيّ للقوميّة العربيّة”. الاسم: خير الدين حسيب. سبب الوفاة في 12 آذار 2021: “تفتّت العالم العربي وضياع حلم الوحدة».
للحق أقول إنني لم أعرف الدكتور حسيب شخصياً. لكنني كنت اُتابع مقابلاته التلفزيونيّة بشغف وأقرأ مقالاته بتمعّن لسببين: كثرة حديث شقيقتي عايدة عنه وإعجابي بعمق وشموليّة تحليله للواقع العربي خاصة بعد ما عُرف “بالربيع العربي”. فكل ما تجمّع في ذاكرتي وعلى مرّ السنين كان على لسان شقيقتي. فتكوّن لديّ انطباع عام شبه ضبابي عن الرجل – الظاهرة. هل كان الدكتور حسيب سلطوياً؟ هل في شخصيته شيء من الديكتاتورية؟ ليس سهلاً أن تفكك رموز أسرار شخصية موصلية تجمع بين قوة السيطرة على الذات والمقدرة على التنظيم. فالثبات سمة أساسيّة للشخصية الموصلية. كان الحضور الكامل لشخصيته العراقية التي لا تعرف المواربة أو تمسيح الجوخ.
عملت أختي مع الدكتور حسيب لأكثر من ثلاثين عاماً.
دخلت مركز دراسات الوحدة العربية “صفحة بيضاء”، خجولة، فاقدة للثقة بالنفس. تقول إن الدكتور علّمها قدسية العمل وزرع فيها الثقة بالنفس والإرادة والصلابة. “هو رجل بكل ما للكلمة من معنى”، تشدّد. “معبّى محله” (بالعامية) رغم أن كثراً كانوا ينتقدونه لصرامته في العمل.
« كيف تتحمّلين العمل مع شخص صعب لهذه الدرجة؟”، سألها صديق للدكتور بعد اجتماع مطوّل معه. فأجابت: “أنتم لا تعرفونه جيداً».
« الشغل ليس للتسلية”، لطالما ردّد أمام مساعديه وموظفيه. من أول مقابلة لعايدة معه طلب منها البقاء والبدء بالعمل. دخلت المكتب فوجدت أعمدة الجرائد والملفات تخفي رأس زميلها الفوضوي في المكتب. فعملت على ترتيبها ونجحت خلال أسبوع. عندما رأى الدكتور حسيب المشهد صُدِم، فقرر نقلها الى مكتبه للاهتمام بأرشيفه الخاص. “شوفي يا بنتي (لم يخاطبها باسمها يوماً)، في المكتبة مطلوب تنظيم أوراق وملفات مشروع خاص لي له علاقة بالمركز كنت بدأته في لندن. إذا نجحت تبقين؛ واذا فشلت ترحلين”. هكذا بكل بساطة وصراحة عراقيّة.
فهو منذ البداية يتعامل مع الناس على اختلاف مستوياتهم بصراحة؛ صاحب كاريزما لا تملك الا أن تحترمه.
نجح المشروع، فأرسل لها رسالة شكر لا تزال شقيقتي عايدة تحتفظ بها كأنها شهادة جامعيّة إضافيّة (هي تحمل شهادة بالتوثيق وعلم المكتبات من الجامعة اللبنانية).
كعادة أهل الموصل أصحاب التقاليد والعادات العربية الكريمة والأصيلة، كان الدكتور يمنح الموظفين راتباً إضافياً في مناسبات الأعياد خاصة في شهر رمضان. وعند وفاة الوالد، أرسل مدراء المركز والموظفين لتقديم واجب العزاء في بيتنا.
في حديث أختي عن الدكتور حسيب (أبو طارق) شيء من الحزن والشوق لأيام عز ولّت. كأنها تتحدث عن أب روحي ومُلهم. تقول: “خلال إحدى الاجتماعات للرؤوس الكبيرة في المركز كان السؤال عن اسم أحد مدراء مؤسسة؟ الكل نسي ومعهم حسيب! فأرسل يطلبني. خفت وتوترت. دخلت قاعة الاجتماعات فسألني عن الاسم، فأجبته بسرعة عفويّة فاجأت الحضور. وقف الدكتور خلف الطاولة المستديرة، خلع سترته وقال بفخر باللهجة الموصليّة المطعمة: “تلميذتي… كومبيوتر مالتي».
الدكتور حسيب مثال الشخصيّة العراقيّة التي تمتاز بالصلابة ومحبة الحق والتعامل الصادق مع الناس. أي إنسان آخر كان يستحيل أن يحقق نصف ما حقّقه الدكتور حسيب في مجال الوحدة العربية وعمل المركز واستمراره”. مرة حضر الى المكتب طلاب جامعيون لشراء كتب… فترك مكتبه الخاص وتحدّث معهم ولبّى طلباتهم مقدماً النصح والمشورة”. بينما تواجد في المركز مدراء أقل شأناً منه بكثير عانوا من عقدة “المشاوفة والكرسي».
حبّه وشغفه وعبادته كان الشغل. في المكتب في البيت وخلال الأسفار الكثيرة. من معارفه الرئيس سليم الحص، جورج قرم، ومروان اسكندر، ومعن بشور، بشارة مرهج وغيرهم (مع حفظ الألقاب). وممن عمل معه في “مركز دراسات الوحدة العربية”: عبد الإله بلقزيز، غسان سلامة، مرلين نصر، زياد الحافظ، سمير كرم، ربيع كسروان (منتدى المعرّف) وعارف العبد وغسان بن جدو (كمتدرّب(.
قارئ نهم كان الدكتور حسيب ومتابع لكل المستجدات السياسية والاقتصادية في العالم العربي والعالم كأنه رادار ثقافي معرفي.
تستعيد شقيقتي عايدة حادثة تركت في نفسها أثراً كبيراً. خلال انعقاد اجتماع عام، طلب أوراق هامة يجب أن يوقعها الحضور قبل سفرهم. أعطت الأوراق لسكرتيره الخاص الذي نسي إدخالها الى قاعة الاجتماعات. سافر الوفد من دون التوقيع ففقد الدكتور أعصابه وطرد شقيقتي ومدير مكتبه من المكتب وحمّلهما المسؤوليّة. فما كان من المدير المساعد إلا أن رفس باب مكتب أختي وشتمها مهدّداً. علم حسيب بالأمر، فطلب منه الاعتذار الفوريّ أو يترك المركز في الحال. اعتذر المدير.
أخبرني صديق أنه كان مع وفد كبير في فاس في المؤتمر الحضاريّ العربيّ برئاسة الدكتور حسيب. لفتته حركته ونشاطه في قاعة المؤتمرات؛ مثل الدينامو لا يكلّ ولا يستريح. ينتقل من مكان الى آخر رغم كبر سنه ويتابع الشاردة والواردة. في نهاية المؤتمر تلقى الوفد دعوة على العشاء من وزير الثقافة اُرسلت بطريقة غير لائقة. اعترض الدكتور ووقف في ردهة الفندق وهو يصرخ في الوفد أن تلبيتهم الدعوة فيها مذلة وليس بهذه الطريقة يعامل المثقفون. لم يذهب أحد الى العشاء.
كان الدكتور خير الدين حسيب ابن الموصل (تعني مكان الوصل) مؤمناً بالقومية العربية وبعدالة قضية فلسطين. فساعد أبناء كل الأقطار العربية، خاصة الفلسطينيين. وهو لم ينسَ يوماً أهل مدينته وعائلته وأقاربه، واستمرّ يمدهم بالعون خاصة بعد اجتياح العراق.
دُفن الراحل بصورة مؤقتة في مدافن بين الضاحية وبيروت على أن يُنقل لاحقاً الى الموصل، حسب وصيته.
دُفن في تراب بيروت التي أحبّ — لأنها تشبه الموصل بتعدديّتها — بالقرب من مرافقه عماد الوزان (أبو علي) الذي بقي معه لمدة 18 سنة.
كان حسيب خير الدين اسماً على مسمّى بكل ما للكلمة من معنى. حسيب في قضايا السياسة والاقتصاد، وخير في العطاء والتضحية والعمل، وفي الدين كان مثال الإنسان المؤمن بالفعل وليس بالكلام. “فخير الناس أنفعهم للناس” (حديث قدسيّ).
كل العزاء لكل مؤمن بالقومية العربية ولمركز دراسات الوحدة العربية بكافة موظفيه ومدرائه، ولشقيقتي عايدة.
وكل العزاء لأولاده: طارق، دنيا وزينب وزوجته ولأهل الموصل والعراق والشعوب العربية.
« يا نهر دجلة والموصل لك في بيروت حسيب عائدُ
طال الفراق. . ولو عاد الخير جسداً
فهو بروح الدين كان دوماً حاضراً».
*كاتب من لبنان.