أساطيل روسيا…
طارق الأحمد
كنتُ قد كتبتُ سابقاً بأنّ الفرق بين العلاقة الروسية السورية والروسية التركية، هو بأنّ الأولى تقع في عمق المصالح الاستراتيجية الروسية وأما الثانية ففي التكتيك… وذلك رغم أنّ العلاقات التجارية مع تركيا أكبر بكثير من تلك التي بين روسيا وسورية…
وفصّلنا في مقالات عديدة ما ملخصه أنّ روسيا اليوم أيّ منظومة الحكم الجديدة لا تشبه طبعاً لا الاتحاد السوفياتي ولا روسيا يلتسين الذي أعطى بحكمه درساً قاسياً ولكن جذرياً لعضد الحكم في روسيا والذي يمثله الرئيس فلاديمير بوتين وغدت بوصلته أوراسيّة عميقة وتدرك جملة المصالح والتشابكات وجذرية الصراع الأوراسيّ مع مصالح الغرب وبالحقيقة حتى “إسرائيل” وتركيا ومن يدور في الفلك الأميركي، لكنها أغرقت على ما يبدو – أيّ منظومة الحكم الروسية – في صنع نموذج متلوّن داخل الجسم الحاكم بهيئاته الرسمية والاستشارية الضخمة من جنرالات متقاعدين وغيرهم ويشكلون الرأي العام في روسيا، حيث نشاهد مواقف متنوّعة الاتجاه في عديد الأحداث والمواقف وبخاصة اتجاه حليف مثل سورية..
لقد تعرّضت روسيا نفسها للاعتداء مثل قيام “إسرائيل” بإسقاط الطائرة الروسية المقاتلة سو– 24 في سورية، كما تمّ قتل السفير الروسي في أنقرة من قبل ألتن طاش المتشبّع بعقيدة أردوغان وهو يقول علناً: الله أكبر، لن ننسى حلب، لن ننسى سورية…
الجنرال ليونيد إيفاشوف صرّح مرة بالحرف الواحد بأنّ في روسيا خونة ينفذون أوامر تل أبيب… وأعتقد أنّ مثل هذا التعبير الصارخ يعبّر تماماً ما أردت أن أقوله من وجود تيارات متعددة الهوى والميل داخل منظومة الحكم الروسية..
لكن الجذري والأساسي كما أعتقد، هو أنّ التجارب القاسية التي مرّت بها روسيا منذ العهد القيصريّ إلى الآن هي ذاتها وبالسياق والهدف نفسيهما، وهو تفكيك أكبر دول العالم مساحة وهي روسيا البالغة 17 مليون كيلومتر مربع، وجذرية السياسة الروسية تعتمد على هذا التصدّي المستدام لهذا الخطر الذي لن يزول مع الزمن أبداً…
من هنا عملت السياسة الروسية الخارجية على تركيب سياسات تقوم على مشاغلة الغرب في مختلف مناطق نفوذه السابقة ومحاولة استمالة أجزاء منها وبطرق عدة، مثل تركيا و”إسرائيل” والسعودية وغيرها، إضافة حتى إلى القوى التي صنعت غربياً مؤخراً مثل بعض قوى المعارضة السورية والتي تعادي الحليف السوري الطبيعي لروسيا بالمعنى الجيوسياسي ذاته الذي يدركه السياسيون الجذريون الروس بقيادة بوتين، بعكس متنوّعي الأدوار منهم، حيث يدركون تماماً بأنّ الحرب على سورية تحمل هدف تفتيتها وليس بناء الديمقراطية فيها وإنما هي البروفة الجيوسياسية لتقسيم روسيا، وما الصراع القائم حالياً إلا لإعادة رسم خرائط الشرق كله من تقسيم ليبيا إلى السودان واليمن وسورية والعراق مروراً بإيران وأفغانستان وإعادة التقسيم وخلق دول جديدة هو الكفيل باستدامة الحروب التي أشعلها الحزب الديمقراطي الأميركي إبان ولاية باراك أوباما السابقة بإطلاق ما أسماه ربيعاً عربياً في كلّ المنطقة وهو قد امتدّ حتى إلى أوكرانيا وأرمينيا على حدود روسيا. وهذا دليل آخر على جذرية السياسات الغربية في إعادة رسم الخرائط للدول وكلّ ما عدا ذلك هو أعذار…
لنعد إلى جذرية السياسة الروسية المجابهة، فهي تتمثل في فهم الهدف الأساس وتفكيكه ومن هنا فقد راهنت روسيا، كما أعتقد وكما كتبت سابقاً، على إعادة انتخاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ليس لأنه قادر أو قابل على تغيير تلك السياسة الأميركية، بل لأنّ في وجوده تمّت خلخلة السياسة الأميركية المتبعة، كما انشغلت أميركا ببضع صراعات حتى مع حلفائها التقليديين مثل أوروبا واليابان وكندا والمكسيك وكان ذلك من فعل ترامب بسياساته التجارية، عدا عن استمالة تركيا بالاتفاقات المزعزعة لمنظومة الناتو كصفقة بيع صواريخ اس 400، أو حتى استمالة محمد بن سلمان بعد قتل الخاشقجي، كما رأينا ذلك من السلام الحار بينه وبين الرئيس بوتين أثناء قمة العشرين التي عقدت في الأرجنتين بعد تكشف فضيحة القتل…
لكن تبدّل الإدارات الأميركية بين الحزب الديمقراطي والجمهوري والذي وحتى لو شكل رهاناً روسياً في وقت ما، لم يكن كلّ الوقت مجدياً حتى بفترة دونالد ترامب، لأنّ متطلبات التغيير الكافية لعلاقة سليمة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية ضخمة جداً وقد وقفت الدولة العميقة في أميركا بوجه تلك التحولات وأهمّها الانسحاب الأميركي من سورية والذي كان ليرسخ النفوذ الروسي وموقع روسيا في المشرق كله كدولة راعية للاستقرار ومحاربة الإرهاب، وهو ما كان ليؤمّن نفوذاً روسياً حتى على الدول السائرة في الفلك الأميركي كالخليج وتركيا لأنها أيضاً تخاف الإرهاب وتريد الاستقرار حتى لو كانت ضالعة في دعمه. وهذا هو فهم ومقاربة روسيا للموضوع…
إدارة دونالد ترامب السابقة زاودت على الدولة العميقة وذهبت أبعد في فرض عقوبات على روسيا كما قصفت سورية فعلياً مع بريطانيا وفرنسا، مما شكل حرجاً أكبر للسياسة الروسية التي تحاول رسم حتى سياسات أو قواعد اشتباك مع السياسة الأميركية، ولا تنجح في ذلك…
الأكيد أنّ موضوع العلاقة بين روسيا و”إسرائيل” وخاصة بشخص نتنياهو يشكل هو أيضاً عاملاً قوياً في ارتباك مشهد العلاقات والتحالفات، حيث يعتبر الحلفاء الطبيعيون للمصالح الجذرية لروسيا بأنّ “إسرائيل” تقف على النقيض من هذه المصالح وهي لن تكون إلا الثكنة المتقدّمة للغرب الأميركي الذي لن يحيد عن هدف تفتيت روسيا، وبالمثل مع اختلاف الظروف فلن تكون تركيا من أتاتورك إلى أردوغان غير ذلك، فهي ممسكة بالمضائق في البوسفور والدردنيل لأجل التضييق على روسيا وهي شكلت على هذه الخريطة بالعقل البريطاني الانغلوساكسوني منذ توقيع معاهدة لوزان عام 1923، وقد فشلت كلّ محاولات الحزب الشيوعي السوفياتي السابق لخلق ايّ حالة شراكة مع تركيا رغم الدعم الكبير الذي تلقاه أتاتورك من روسيا الشيوعية..
كلّ ذلك يجعل روسيا تطيل لعبة الشطرنج بنفس طويل وصبر كبير، وتتحرّك بين الأحجار صغيرة وكبيرة ولكن عينها على لحظة إعلان كش ملك مع الولايات المتحدة الأميركية، والتي قد لا تكون لحظة قصيرة بالمعنى الزمني المعروف، بقدر ما تريده اعترافاً بالتعددية القطبية كما دعا أيضاً من جهته الرئيس الصيني شي جين بينغ، وهو الأمر الذي تريد الدولة العميقة الأميركية منع أو تأخير حدوثه ما أمكنها ذلك…
في زحمة كلّ تلك السياسات تخسر روسيا فعلياً قوة حلفائها، لأنّ روسيا نفسها لا تتمتع بتلك القوة الاقتصادية وهي بين الدول الصناعية في آخر القائمة للكبار الثمانية، وتعتمد على تصدير النفط والغاز لخصمها الغربي من بوابة ألمانيا، وبالرغم من التعويض الجيد في العلاقات المستدامة مع الصين، إلا أنّ الأمر لم يتحوّل بعد إلى خطة مواجهة مع الغرب وهو غير مرشح للتحوّل رغم كلّ التوتر الناشئ مع سياسة بايدن العدائيّة تجاه روسيا والصين.
فسورية 2011 هي غير سورية بعد عشر سنوات من الحرب والإنهاك، ولم يكن من الحكمة في تقديري أن تترك السياسة الروسية التي تدرك أنّ كلّ ما يحدث في سورية هو بروفا للجائزة التاريخية الكبرى وهو تقسيم روسيا بعد تفتيت سورية. فروسيا هي الأهمّ وهي الهدف، وأصبح واضحاً خطأ ترك السياسات الاقتصادية في العلاقات الروسية السورية لقوى التلوّن في الأهواء والرؤى الموجودة في القيادة الروسية ومثلها عدد من رموز السياسة، ومنهم رئيس الوزراء السابق مدفيديف، ومهما أوضحنا نحن في وصف معاناتنا معها في كلّ الاتفاقات الروسية السورية التي لم تطبّق وأساءت لدور وليس فقط لسمعة روسيا في سورية، فإننا لن نبلغ مبلغ وصف الجنرال إيفاشوف الذي قال عن وجود خونة ينفذون أوامر تل أبيب…
نعم وحتى بالقياس الرمزي، فقد كان لرمزية يد المندوب الروسي الراحل في مجلس الأمن فيتالي تشوركين وهي ترفع الفيتو إثر الآخر بالشراكة مع الصين ضدّ محاولات تحالف العدوان الغربي العربي على سورية لاحتلالها، بمثابة دفاع استباقي عن روسيا والصين معاً، وإنّ وصف الرئيس الأميركي جو بايدن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ “القاتل”، قد سبقته كلّ تلك الاتهامات المحضّرة مسبقاً للرئيس الأسد ضمن سياق الحرب الناعمة لأنه رفض السير في ركب المشاريع الغربية وبذرائع تتكفل مخططات الحرب الناعمة بإيجاد الآلاف منها عبر خلق الفتن الداخلية…
أخيراً وإزاء كلّ هذا الوضع الذي أصفه بأنه متدهور بين أكبر قوتين نوويتين عالميتين هما روسيا وأميركا، فالأمر يستدعي من الحليف الروسي، حقيقة إجراء إعادة الحساب لنقاط القوة والضعف في سياساته المتبعة مع حلفائه، وبالأخص سورية، حيث انه استطاع دعم سورية لكسر العمود الفقري لمشروع العدوان الذي تسلّح بالإرهاب، لكنه لم يهزم الجسم كله، وإذا لم تتحرّر مفاصل سورية الرئيسية وتفتح طرقها الرئيسية وأهمّها طريق دمشق بغداد بتحرير التنف وإزالة البؤر الإرهابية المدعومة بالاحتلال الأميركي فوراً عبر موقف روسي حاسم يأتي بأساطيل روسية مقابل القواعد الأميركية في المنطقة وينذرها بوجوب فتح الطرق وإتاحة سيطرة الدولة السورية على محافظاتها الشرقية واستعادة أبنائها وثرواتها ووضع مهلة زمنية حقيقية فعلاً لاستعادة إدلب وباقي كلّ المناطق المحتلة من تركيا، وهذا لا يتناقض ولا يمنع أبداً استمرار الدعوة الجادة إلى الحوار السياسي الوطني السوري السوري، يكون كسر الإرهاب لم ينجز حقاً. وكلّ ذلك عبر إرسال رسالة قوّة إلى الغرب وكلّ الأطراف التي تخرق يومياً ميثاق الأمم المتحدة باحتلالها أراضي الغير بالقوة الغاشمة. وهذا ينطبق على تركيا والولايات المتحدة الأميركية. وهذا هو الردّ الحقيقي الذي سينفع على كلام بايدن غير العفوي والمعدّ مسبقاً، إذ ليس ثمة مجال لألعاب الخفة بين الدول النووية، وقوة روسيا هي بقوة حلفائها ولننتهِ من نغمات بعض المحللين السياسيين الروس الذين يحسبون على سورية حريتها بكمية صواريخ دفعتها روسيا فيها، لأننا لم ننطلق في كل علاقتنا إلا من الفهم الجيوسياسي العميق بأن أمن وقوة روسيا يتحققان من أمن وقوة سورية. وهذا كان مغزى ما قالته القيصر كاترينا وفق تعبيرها (سورية الكبرى وأمن روسيا)…