عيد التضحية
} د. رائدة علي أحمد
على جري العادة، دفعني فضولي لأقلّب صفحات وسائل التواصل على هاتفي الخلوي. وإذا بي أبحر في لجّة من بحر المشاعر المتدفّقة عن الأمّ ودورها في الحياة، مشاعر امتزج فيها الحبّ، والعطف، والامتنان، والعرفان، وحرقة الشوق، وخبث الموت، والفراق اللئيم، وقرأت تعليقات إيجابيّة كثيرة تعبّر عن إبداء الرأي، والإعجاب، والتفاعل، والمواساة والامتنان والفقد والحبّ. كما لفتني كمّ من التعليقات السلبية تهدف إلى تكذيب تلك المشاعر لكونها تشمل معاني التكاذب العاطفي والمجاملات المخادعة لمن لم يقُم بدوره الإنساني في طاعة الوالدين، والبرّ بهما. وعدتُ بذاكرتي إلى مشهد من مسرحيّة الغربة لدريد لحام، فيه يحتفل الناس بعيد الكذب، ويمدّون موائد دسمة تعبّر عن كرمهم، وحسن ضيافتهم، واحتفالهم بالمضيف، وكنتُ أرى الجانب الإيجابيّ لهذا الاحتفال، وإنْ كان موسوماً تحت عنوان الكذب. فإنه يدلّ على عظيم شأن لما يمثّله من قيم أخلاقيّة وتقاليد حميدة. فالعيد هذا يجمع الناس ولا يفرّقهم ويحملهم على التحابّ، وصدق المشاعر النبيلة، بينما نرى عكس ذلك في عيد الصدق الذي يفرّق بين الناس، ويشعل نار الفتن والحروب والتقاتل والعداوة والتحارب وينقلب المجتمع رأساً على عقب.
فالأم يا سادة، ومهما دار الأمر في ذكرها، أو تذكّرها، سواء أكانت على قيد الحياة، أو أعدناها إلى الحياة على جناح المشاعر والعاطفةـ يكفيها أننا نعترف بجميل فضلها ونعدّد فضائلها التي لا تُعَدّ. فهذا الأمر أكثر سمواً، وأنبل موقفاً من طيّها في لباب النسيان. فالأم مفطورة على التضحية والوفاء، تفرش البيت حبّاً وحناناً وعاطفة لا مثيل لها، ولا تطلب منّة أو عرفاناً من الأبناء. إنها تتماثل والخالق في إدارة شؤون خلقه، بالسليقة والعفوية والصدق والطبع. وقد ميّزها الله بهذه الصفات، وكرّمها، وعزّز موقعها، وجعل الجنّة التي يطمح إليها المؤمنون والصالحون والبارّون تحت قدميها، وإنْ دلّ هذا على شيء فهو يدلّ على مكانة الأمّ العظيمة عند خالقها، يكفيها شرف هذا الانتماء وتلك المكانة القدسيّة فلندع التكريم المادي الذي نتباهى به أمام عظيم أفعالها الذي لا يغني ولا يُسمن.
فما بالكم أيها الفايسبوكيون تنقّون وتنتقدون وتتقيّأون على صفحات التواصل الاجتماعي ما يفرّق بين الناس، ويشحن الحقد والبغضاء في النفوس، ويغطي القلوب بمشاعر الحقد والضغينة، وتتشعّب الألسن بالفرى والنميمة، فتفضّون سامركم، وتطعنون بعضكم، وتلوّنون ضمائركم بالأسود القاتم، وتتهامسون بالسرّ والعلانية. كيف أجحف هذا بحقّ أمه، وماذا فعل ذاك بها، وكأنني بها قد قدّمت تقريراً عن إهمال أبنائها لكم، فقرّرتم محاكمة الجاني ظنّاً منكم أنكم فوق النقد، غير أنّ النتيجة النهائية أنّ الكلّ تحت ميزان النقد والكلّ ينمّ على الكلّ، والرصيد الحتميّ هو أنّ الكلّ يكره الكلّ.
وإذا تركتم هذه الزاوية الضيقة فقد ترون عوامل كثيرة ومختلفة، تشغلنا عن النميمة على بعضنا، فمن الحجر الصحيّ الذي يحاصرنا، ويرمينا في زوايا شقق صندوقيّة الشكل، إلى الحجر الاجتماعي الذي يفرّق بين الآباء والأبناء، أو بين الأولاد وأهلهم، أو بين الجيران والأقارب والأصدقاء لهو أمر نفسيّ بامتياز. هذا الحجر اللعين منع البسمة أن تدخل بيوتنا، وتقيم بيننا، منع الحبّ يتسلل إلى قلوبنا، فتشعر بالدفء بفقد المازوت والبنزين والكهرباء، سلب المودة التي كانت تسكن أرواحنا، خطف الرحمة من قلوبنا، فأصاب اليباس العاطفي مقتلاً منّا، وبتنا على شاكلته متحجّرين، وصرنا أكذب قليلاً وأكبر شرّاً، ومن الفساد المستشري إلى دولارات الناس المحكوم عليها بالإعدام في المصارف إلى دولار الطلاب الذي شرّد أبناءنا في الشتات، ومن دولار التجار الذي حلّق فوق الريح إلى دولار المصارف الذي تسكبه لنا من عنق الزجاجة المحكم الإقفال، ومن احتكار المواد الغذائيّة إلى إقفال المحالّ والمصانع والمعامل والمدارس والجامعات ومن المصائب التي تنوشُنا من كلّ حدب وصوب إلى اختلاف الحكام على مناصب التوزير، ومن مشاهد الثوار الرافضين معاني الذلّ والاستكبار إلى النيران المستعرة في الشوارع، من ازدحام البلطجيّة وقطاع الطرق، إلى وقاحة سيادته وهيافته ومعاليه ودولته وسعادته وفضيلته ومن… ومن…
فما بالكم أيها الناس تتّخذون من البغضاء والحسد والنميمة باعثاً ليكون سلاحاً تشهرونه على بعضكم وكلكم ضحية.
عودوا عن ضالّتكم، وانشدوا المحبة، واتخذوا من الإيجابيات مسلكاً حسناً، مسلك رحمة ورأفة، وتفهّم وتقبّل للآخر.
ولكن مهلاً فليكن هذا التقبّل حقيقيّاً، وليس كلاماً سياسياً أو طائفيّاً، كما تعوّدت ألسنتكم على البوح به في الزوايا المظلمة، وهو غريب عن العقول والأفعال.