بغداد… يا قلعة الأسود
} الأمين سمير رفعت
جرت العادة أن يكلّف مذيع، أو مدير إدارة في هيئة الإذاعة والتلفزيون، لإدارة إذاعة معرض دمشق الدولي خلال ثلاثين يوماً من عمر المعرض الذي كان كذلك في بداياته، وكان حظّي أن أكون ذاك المدير لمدة سنتَين متتاليتَين 1963 – 1964. وصودِف أن يكون الرئيس العراقي عبد السلام عارف ضيفاً على الكيان الشامي خلال فترة معرض دمشق الدولي، وكان على رئيس الجمهورية الشامية آنذاك، أمين الحافظ، استقبال الرئيس العراقي في مطار دمشق الدولي القديم، الذي أصبح الآن مطار المزة العسكري بعد إنجاز المطار الدولي الجديد. كذلك كان على موكب الرئيسَين أن يمرّ في ساحة الأمويين في طريقهما إلى قصر الضيافة في أبو رمانة، والمعرض يمتدّ على أرض تبدأ من ساحة الأمويين وتنتهي في نهاية الشارع قبل أن ينعطف الموكب يساراً باتجاه قصر الضيافة. وقد ارتأيت أن أرحّب بالضيف العراقي خلال مروره من أمام أرض معرض دمشق الدولي، لذلك وضعت أغنية أم كلثوم الشهيرة: «بغداد يا قلعة الأسود يا كعبة المجد والخلود». أسكتت مكبرات الصوت كلها، ووُضعت هذه القصيدة من لحظة صراخ الكورس كلمة «بغداد».
وحين وصول موكب الرئيسَين أول ساحة الأمويين، فُتحت مكبرات الصوت على مداها، وضغطت زر التسجيل لينطلق صوت الكورس: بغداد…. وتضيف أم كلثوم بعد ذلك: بغداد يا قلعة الأسود…
كان الرئيسان يستقلان سيارة رئاسية مكشوفة ويسيران ببطء ضمن موكب الحراسة والمرافقين والوفدَين المرافقَين، العراقي والشامي… وحين انطلق الصوت مجلجلاً في الفضاء… بغداد.. تلفّت الرئيسان، وتلفّت الجميع باتجاه الصوت المدوّي الذي طغى على ما عداه من الموكب، ووصل إلى قصر الضيافة بينما القصيدة وأم كلثوم يرافقان الموكب.
وبينما كنت جالساً في استديو إذاعة المعرض الصغير جداً أتابع عملي، رأيت أنّ الزجاج الفاصل بيني وبين غرفة المراقبة قد أُغلق بجسد طويل عريض يلبس بزّة عسكرية، لم أتبيّن رأسه أو قدمَيه، فُتح باب الاستديو عليّ.. دخل صاحب البزّة العسكرية، تاركاً لمخيّلتي أن ترسم الكثير من التخمينات المرعبة ونحن في ظل حكم عسكري، إلى أن حيّاني صاحب البزّة العسكرية بمحبة وودّ بدّدا عندي تلك الهواجس المرعبة. وقفت أرحّب بالضيف المجهول، بالنسبة لي، حتى تلك اللحظة التي عَرّفني بها عن نفسه: أنا حردان التكريتي، أرسلني فخامة رئيس الجمهورية عبد السلام عارف لكي أشكرك على اللفتة الكريمة التي قمتَ بها على طريقتك بالترحيب به، وكلّفني أن أدعوك إلى حفل الاستقبال الذي سيُقام مساءً في السفارة العراقية، لأنه يريد أن يتعرّف إليك عن قرب. شكرت الضيف الذي اقتحم الاستديو وودّعته حتى باب الإذاعة، حيث تقف سيارته، وعدت لأخلو إلى نفسي قليلاً أستعيد توازني من المفاجأة. وقد لبّيتُ الدعوة وذهبت إلى حفل الاستقبال حيث يقف في صدر الصالون في السفارة الرئيسان عبد السلام عارف وأمين الحافظ. حيّيتهما وعرّف عنّي الرئيس الحافظ، وبالفعل شكرني الرئيس عارف بحرارة قائلاً لي: الاستقبال الرسمي والشعبي الذي لقيته منذ دخولي دمشق بكفّة، واستقبالك لي بسماعي اسم العاصمة بغداد يتردّد في سماء دمشق بكفّة أخرى، وقد أثّرت بي هذه البادرة كثيراً.. وكأن بغداد تعادل عندك في الحب دمشق.. أشكرك مجدداً.. عندها علّق أمين الحافظ قائلاً للرئيس عارف: لو تعرف عقيدة الأستاذ سمير، لما استغربت أن تكون بغداد بالنسبة إليه كدمشق وعمّان والقدس وبيروت! علّق الرئيس عارف: هذه مبادئ عظيمة، دلّني على هذا الحزب لأنتمي إليه، أجبته أنه بعد سنّ الأربعين يصعب الانتماء إلى الحزب إلّا بإذن خاص، ولكن أعدك بأن أتوسّط لحصولك على هذا الإذن، الإعلام المرئي الذي كان ينقل الاحتفال على الهواء لفت إلى أن استقبال الرئيسَين الحافظ وعارف لسمير رفعت طال لدقائق دون معرفة ما دار من حوار.
في مساء اليوم الثاني من برنامج زيارة الرئيس العراقي لدمشق، أُقيمت حفلة فنية كبرى على مسرح معرض دمشق الدولي على شرف الرئيس الضيف، أقامته إدارة التوجيه المعنوي في الجيش الشامي، وكنت بحكم إدارتي لإذاعة المعرض مكلفاً بنقل هذا الحفل إلى الإذاعة والتلفزيون، وكانت الأجهزة وكان الفنيّون ومذيع النقل يجلسون على يسار مدخل المسرح، وما أن أطلّ الرئيسان حتى نقلت دخولهما، فما كان من الرئيس أمين الحافظ إلا أن حيّاني مصافحاً، وبطريقته الشعبية، قائلاً: مرحبا أبو السمور، أجبته على الهواء: أهلاً أبو عبدو. قدّمت العقيد أسعد طباخ على ما أذكر، وكان مدير إدارة التوجيه المعنوي، ليلقي كلمة الترحيب، فراح يمتدح الوحدة بين الشام ومصر، مع ما يشكّل ذلك من حساسية للنظام الشامي بعد أحداث الثامن عشر من تموز 1963 بين البعث والناصريين، ومحاولة الناصريين الفاشلة الاستئثار بالحكم بعد الثامن من آذار. فجأة رنّ الهاتف الخاص الذي يوصلنا بالإذاعة والتلفزيون، المتكلم كان النقيب سليم حاطوم، قال لي بالحرف: أستاذ سمير أنزل هذا المجنون من على منبر المسرح وابعثه لي فوراً، وسأرسل لك شاعراً أوجِد له مكاناً في بداية الحفل. سألته ما اسم الشاعر؟ قال لي: صابر فلحوط. أومأت للعقيد أسعد طباخ بالنزول سريعاً، ونقلت له غضب سليم حاطوم. ضحك وقال لي: لقد وصلتُ إلى ما أريد، فأنا أرغب منهم أن يسرّحوني من الجيش، ورأيت أنّ مديحي للوحدة بين سوريا ومصر هي الطريقة لغضبهم عليّ، ولأصل إلى مرادي.
لحظات قليلة ووصل شاب نحيل، عرّفني عن نفسه: أستاذ سمير أنا صابر فلحوط، أرسلني النقيب سليم حاطوم. ولحظات قليلة أيضاً اعتليت المسرح وقدّمت الشاعر صابر فلحوط من خارج برنامج الحفل، الذي اعتلى المسرح بدوره وألقى قصيدة فيها من الغمز واللمز بحق المصريين: أنّا في مصر أسودٌ دَرْبُها وحدةٌ رغم دُعاة الكذب… ما جعل الضيف العراقي الرئيس عبد السلام عارف يحتج بحركات من يديه، مطالباً بإنزال الشاعر المتجنّي برأيه على مصر الوحدة، ثم أتبع احتجاجه بأن غادر الحفل في بداياته، تاركاً الرئيس المضيف أمين الحافظ يتابع وحده فقرات الحفل.