صدق «الرومي» وكذب السياسيون والسلطويون
علي بدر الدين
قول جلال الدين الرومي، «إرتقِ بمستوى حديثك، لا بمستوى صوتك، إنه المطر الذي ينمّي الأزهار وليس الرعد».
هذا القول ينطبق تماماً على المنظومة السياسية الحاكمة أو معظمها على الأقلّ، التي لا تزال ممعِنة في رفع منسوب صوتها وخطابها الطائفي والمذهبي والسلطوي، إلى أعلى مدى، لاعتقادها الخاطئ، أو لجهل منها، أو لعجز إدارة شؤون البلاد والعباد أو لسلوكها السياسي المشين، أو للتشويش على الشعب وتحديداً على بيئاتها الحاضنة، واستجرارها الى حفلات الصراخ، وبما يخدم مصالحها ويورّط الشعب في ما يجهله ولا علاقة له به ولا فائدة مرجوّة منه.
هذه المنظومة التي لا تحسن سوى لغة السلطة والمصالح والتحاصص، والنهب والفساد، تبالغ في ادّعاء حرصها على مصلحة الوطن والناس والدولة، وتملأ الدنيا صراخاً أجوف وتشغل الناس به، وبالظلم الذي يعانونه هم من شركائهم في السلطة، فتخلط حابل مصالحها بنابل حقوق الطوائف والمذاهب والناس، وتحاول قلب الميمنة على الميسرة وبالعكس، حتى إذا ما تحققت مصلحتها ونالت حصتها، ونجحت في إبرام تسوية، أو اتفاق أو عقد، وهذا حتماً سيحصل عندما تتقاطع المصالح، فإنّ عاصفتها الهوجاء تميل إلى الهدوء والسكينة، وكأنّ شيئاً لم يكن، وتترك شعبها يتخبّط ويتصارع ويدفع الأثمان والتداعيات.
لبنان أمس واليوم وغداً وحتى إشعار آخر، بدولته وشعبه ومؤسّساته المعطلة، أو التي ينخرها الفساد والفوضى، أو المرتهن منها للقوى السلطوية والطائفية والمذهبية والمناطقية، سيبقى رهينة، وحلبة صراع وصراخ وضجيج لإلهاء الناس عن عجزها وفشلها وعقم سياساتها، وانعدام إنتاجها العام، لأنها وظفت الدولة ومؤسساتها وإمكاناتها وأجهزتها على أنواعها لمصالحها الخاصة ولعائلاتها وعشائرها وقبائلها وأزلامها والمحاسيب، فراكمت هي الثروات وأفلست الدولة وانهارت المؤسسات الرسمية وأفقر الشعب وجاع، وها هو يقف مذلولاً في طوابير طويلة للحصول على سلعة غذائية «مدعومة» بالقهر والظلم والتعارك مع جاره وإبن منطقته للنيل منها وقد لا يتحقق حلمه في الوصول إليها، أو تأمينها لأطفاله.
هذه السلطة تخوض «أمّ المعارك» من أجل حقيبة في حكومة قد لا ترى النور في زمانها، وترفع شعارات وعناوين مغلّفة بالصلاحيات والميثاقية وحقوق الطوائف والمذاهب والوطن، والشعب وهم منها براء، لأنها بكلّ هذا الصراخ، إنما «تقاتل» دفاعاً عن وجودها ومصالحها وحاضرها ومستقبل الأولاد والأحفاد والأصهار والآباء، والأهم إبقاء سلطتها وهيبتها ونفوذها ومن بعدها الطوفان.
السلطة مجتمعة وبالتكافل والتضامن والتحاصص، تفوّقت على ذاتها وعلى الشعب، وسجلت تاريخاً ناصعاً تستحق عليه الرمي بالحجارة واللعنة الأبدية، والملاحقة والمساءلة والمحاسبة، لأنها دمّرت بلداً بكامله، وأفقرت شعباً طيب الأعراق وجوّعته، ونال لبنان بفضل «حكمتها» المرتبة الأولى بالفساد، ومرتبة متقدمة بين الدول الأكثر فقراً، والأقلّ مدخولاً للفرد في العالم، والأكثر تضخماً بين العديد من الدول، وانضمّ وفق منظمة «الفاو» إلى منظومة الدول الفقيرة جدا، وما يقارب الستين بالمئة من شعبه تحت خط الفقر، ولبنان في ظلّ عهوده وحكوماته ونوابه انعدمت قيمة عملته الوطنية وانهارت وفقدت دورها ومكانتها بين العملات في العالم.
الأسوأ أنّ هذه المنظومة حصّنت نفسها من الشعب اللبناني، ولم تعد خائفة من الانفجار الاجتماعي الذي لطالما لوّح به البعض، لأنه انفجر بمواجهة بعضه في المراكز التجارية، من أجل الحصول على السكر والزيت والحليب ورغيف الخبز، بدلاً من الانفجار ضدّ من ظلمه وسرقه وحرمه من حقوقه كلها.
هذه السلطة التي نجحت بتحييد الشعب وتخديره وتطويعه، تخوض حرباً شعواء وبلا هوادة بين بعضها البعض، لتحصيل ما يمكن تحصيله من حصص ومواقع سلطوية ونفوذ ومكاسب آنية مرحلية وللمستقبل الذي لن تصل اليه بعد الذي فعلته واقترفته من جرائم وأفعال شائنة تدمي القلوب وتدمع العيون وتهدم الوطن وتقوّض الدولة ومؤسّساتها وتجوّع الشعب. وها هي اليوم أو ما تبقّى منها ترفع الصوت، وتدقّ نفير القلق والخوف، وتحذر من دون خجل من أنّ البلد على شفير الانهيار، وتناشد الدول الصديقة والشقيقة والقريبة والبعيدة، لتقديم الدعم والمساعدة بعد أن سرقت كلّ شيء، وآخر الصرخات حول الوضع الصحي الذي بدأ ينهار، وافتقاد المستشفيات إلى الأوكسجين، وإلى الأمصال، والى الدواء والأجهزة الطبية المتنوّعة، وهي عندما أفسدت وسرقت وعقدت الصفقات، لم تحسب لمثل هذا اليوم، فاستمرّت بإفسادها حتى خرّ البلد صريعاً، بفعل الضربات المتتالية، هي تتباكى على حكومة لم تؤلّف، لأنها لا تريد تأليفها إلا بشروط وضغوط وأثمان وصلاحيات فضفاضة، وحقوق هي من انتهكها، وآخر مأثرها الصراع المحتدم بين قصري بعبدا وبيت الوسط، والحلفاء والمستشارين والمكاتب الإعلامية، على لا شيء، أو في أفضل الأحوال على بقايا وطن وشعب ودولة ومؤسّسات، ومن أجل حكومة لن تنتج، ولا يعوّل عليها، لأنها حكماً في ظلّ الطبقة السياسية والمالية الحاكمة من أكثر من ثلاثة عقود، لا فائدة منها، إذا ما كتب لها ان تولد في هذه المرحلة.
ما الفائدة التي يجنيها الشعب المكسور من الشعارات المرفوعة والشروط الموضوعة للتأليف، فلا الثلث المعطل يعنيه، ولا أهمية عنده لإسم الحكومة وشكلها وحجمها، وأسماء وزرائها، ما دام اختيارهم سيكون عن طريق رموز الطبقة السياسية الحاكمة وأمرائها؟
وما فائدة هذا الشعب، إذا ربح هذا أو خسر ذاك، أو مال ميزان الصراع لهذا الفريق أو لذاك الفريق؟ همّه الوحيد هو ولادة حكومة إنقاذية بالحدّ الأدنى علها تنجح في انتشاله من معاناته التي تفوق طاقته وتحمّله، ونقطة على السطر.
كفى صراخاً وصراعاً على سلطة ومال ومكاسب ونفوذ، وأمجاد زائلة، وأنتم اول الزائلين والوطن باق بكم ومن دونكم سيكون أفضل بكثير. ونذكر الشعب بما قاله الرومي، «ابتعد عن عبادة الأصنام بجميع أنواعها، لأنها تشوّه رؤيتك، وليكن الله وحده هو دليلك وتعلم الحقيقة، لكن احرص على ألا تصنع من الحقائق التي ستكون لديك أوثاناً».
للسياسيين السلطويين نقول، اخفضوا أصواتكم وانحنوا لإرادة شعبكم، وكفاكم صراخاً وصراعاً على السلطة والمال وأمجاد عابرة زائلة كزوالكم المؤكد…