إيجابيّات الأزمة في لبنان: فرص للتغيير الشامل
زياد حافظ*
في جلسة نقاشيّة افتراضيّة حول الأزمة الراهنة في المنتدى الاقتصاديّ الاجتماعيّ تساءل الدكتور رياض خليفة أمين عام المنتدى القوميّ العربيّ لماذا يتمّ التركيز على النواحي السلبية للأزمة المالية والاقتصادية وحتى جائحة كورونا التي تجتاح لبنان ونتناسى إيجابياتها! وعدّد بعض هذه «الإيجابيات» كإعادة الاعتبار إلى الريف والاتكال على الزراعة وتشجيع الصناعة المحلية وذلك على سبيل المثال وليس الحصر. هذه الملاحظات أدّت عندنا إلى التفكير بعمق حول نواحي الأزمة كافة وخلصنا إلى أنه هناك بالفعل إيجابيات استراتيجية حصلت يمكن البناء عليها لنهضة البلاد من المستنقع التي أوقعته فيه النخب السياسية الحاكمة الحالية والسابقة وحتى تلك التي تطمح إلى الحكم! فيمكن النظر إلى الكوب كأنه شبه فارغ ويمكن النظر إلى الكوب كضرورة لملئه. أيّ بمعنى آخر علينا أن ننظر إلى الأزمة كفرصة تاريخيّة للتغيير. وهذا ما سنحاول عرض خطوطه العريضة في ما يلي.
أولى هذه الإيجابيات هي التفكير في مقاربة أسباب الأزمة والحلول لها. في هذا السياق نعتقد أنه تمّ إشباع مقاربة الأسباب ولكن ما وجدناه هو قلّة التصوّرات المتكاملة سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو التربوي أو البيئي. فالأزمة أزمة بنيويّة تطال كافة القطاعات بشكل أساسي وإنّ كانت ظاهرتها الشح المالي والفقر وخطر الفلتان الأمني. لذلك أُنشأ المنتدى الاقتصادي والاجتماعي الذي يضمّ عدداً من الكفاءات العلميّة والمقامات السلوكيّة التي تجعل ما يصدر عن ذلك المنتدى يمتلك القوّة المعنوية والعلميّة في آن واحد. هذه إيجابية لم تكن بالحسبان عند انطلاق الأزمة.
ومن مقاربتنا الشخصيّة للأمور تبيّن أنّ أسئلة جوهرية يمكن طرحها خاصة أنّ تفاعل اللبنانيين سواء بوعي أو غير وعي مع الأزمة طرح بقوّة جدوى «مسلمّات» ارتكز إليها الكيان اللبناني. هذا لا يعني أبداً أننا نحبّذ الحالة التي نحن فيها، ولكن لا بدّ لنا من أخذها في عين الاعتبار. فعلى سبيل المثال هناك مسألة الدولة وجدواها في حياة اللبنانيين. لسنا من الذي يريدون إلغاء الدولة، ولكن وجدنا أنّ الدولة تقاعست في القيام بواجباتها بغضّ النظر عن المسبّبات. وللمرّة الثانية في تاريخ لبنان المعاصر يتفاعل اللبنانيون مع تقاعس الدولة عبر الاتكال على النفس وعلى القيمة الأساسية الموجودة في مختلف مكوّنات المجتمع اللبناني وهو نظام التكافل بأشكاله المختلفة داخل كلّ مكوّن والتي لا نستطيع الخوض فيها لضيق المساحة ولضرورة التركيز على نقاط أخرى لا بدّ من عرضها. حصلت التجربة للمرّة الأولى خلال سنوات الحرب الأهليّة وها نحن نعيد التجربة مرة أخرى. فخلال التجربتين، السابقة والراهنة، تبيّن أنّ المجتمع أقوى من الدولة. فالدولة قد تنهار أو تصاب بعائق يمنع عملها بينما المجتمع له ديمومة وحيوية يستمرّ من خلالها ويتكيّف مع واقعها. وبالتالي يشكّل هذا الأمر مادة للتأمّل ليس فقط على الصعيد النظريّ في العلوم السياسيّة والاجتماعيّة بل أيضاً على الصعيد العملي وضرورة فرز ما يمكن أن يقوم به المجتمع بمفرده وما لا يمكن أن يقوم به. هذا موضوع في غاية الأهمية خاصة إذا ما تناول قضايا الأمن والقضاء فهل من الممكن أن يقوم المجتمع بتلك المهام؟ سؤال نطرحه بكلّ بساطة.
من جهة أخرى نعي أنّ هناك فوارق كبيرة بين تلك الفترة واليوم. الفارق الأول هو وجود عملة مستقرة خلال سنوات الحرب باستثناء الجزء الثاني منها أيّ بعد احتلال العدو الصهيوني للجنوب ومناطق من جبل لبنان. لكن حتى التراجع لليرة اللبنانية في تلك المرحلة كان تدريجياً مقارنة لما نشهده هذه الأيام. لسنا في إطار عرض تاريخ تقلّبات الليرة اللبنانية في ولاية الرئيس أمين الجميّل وبداية حقبة الطائف وأسبابها أو في المرحلة الراهنة، بل نقول إنّ حتى في الظرف الراهن فشحّ الدولار من الأسواق ربما يعيد الاعتبار الى الليرة اللبنانية والخروج التدريجي من دولرة الاقتصاد اللبنانيّ. وهذه إيجابيّة كبرى يمكن أن نفصّل مراحلها المستقبلية في وقت لاحق. فمن الإيجابيات الصريحة أن لا بديل للعملة الوطنية وأنّ الاتكال على عملة أجنبية هو بمثابة انتحار جماعي للمجتمع، إنْ لم يعتبر اللبنانيون من تلك التجربة فلا مجال للتفكير لمستقبل يجمع اللبنانيين.
ثاني الإيجابيات هي الإجماع على سقوط القوى السياسية الحاكمة والمتحكمة بمفاصل الدول والاقتصاد. هذا يعني أنه توجد فرصة تاريخيّة لقوى تغييريّة حقيقيّة لملء الفراغ الذي يشكّله سقوط القوى الحاكمة. لكن لم تظهر حتى الساعة من هي القوى وما هو برنامجها، ولكن في رأينا المسألة ليست مسألة إذا ستوجد تلك القوى بل متى؟ فعلى اللبنانيين أن يتجاوزوا ميزان القوّة في اللحظة الراهنة لينظروا إلى المستقبل. من ضمن الإيجابيات سقوط الرهان على وجود الحلّ من الخارج الذي أصبح هو بدوره بحاجة إلى حلّ لمشكلاته الداخلية. فالعالم تغيّر وليس لبنان في أولوياته!
ثالثة الإيجابيّات هي سقوط النموذج الاقتصادي المبني على فرضيّات ربما كانت مبرّرة في زمن ماضٍ، ولكنها لم تعد قائمة. فنموذج الاقتصاد الخدمي الريعي سقط ولا بدّ من العودة إلى البديهيات وهي إعادة الاعتبار إلى الاقتصاد المنتج. بالمناسبة، فهذه ظاهرة ليست خاصة بلبنان بل في كلّ دولة اتبعت النموذج النيوليبرالي وفي مقدّمتها الولايات المتحدة التي تحوّلت من أكبر دولة منتجة إلى دولة ركيزة ثروتها الثروة الافتراضية المالية الريعيّة. فقوة الدول هي في متانة قوى الإنتاج والولايات المتحدة لزّمت قاعدتها الإنتاجية من السلع إلى الدول النامية واليوم أصبحت منكشفة تجاه تلك الدول ولا تستطيع فرض إرادتها حتى بالقوّة العسكرية.
ففي ما يتعلّق بالتوجّه إلى اقتصاد منتج بدلاً من الاعتماد إلى القطاع الخدمي المالي الريعي الذي لا يسمن لبنان ولا يغنيه من جوع فإنّ ذلك يفرض مراجعة العلاقة مع الغرب. وهنا الإيجابية الرابعة حيث على لبنان أن يقرّر بكلّ وعيه أنه جزء من هذه المنطقة وأنّ مصيره مرتبط عضوياً بها. هذا لا يعني أننا ندعو إلى القطيعة مع الغرب، ولكن مستقبلنا أصبح في الشرق وهذا ما كان يجب أن يكون منذ بداية إقامة الكيان ولم ترده النخب الحاكمة آنذاك ومن بعدها وحتى الساعة. ألم نر بعض النخب ترفض اليوم المساعدات السورية المحاصرة في تزويد لبنان من الأوكسيجين في مواجهة جائحة كورونا؟ فسورية تنظر إلى لبنان كبلد شقيق، بينما بعض اللبنانيين يعميهم الحقد ولا يرون في سورية إلا السوء!
الإيجابية الرابعة هي اكتشاف اللبنانيين مدى خطورة تصدير أولادهم إلى الخارج وحرمان لبنان من طاقات، لبنان بحاجة إليها إضافة إلى الكلفة الباهظة التي يتحمّلونها والاقتصاد اللبناني. هذا يعني ضرورة إعادة النظر في مستوى التعليم الجامعي في لبنان وجعله في متناول الجميع من جهة في كافة الفروع التي يطلبها سوق العمل بل أيضاً الكفاءات المطلوبة للمستقبل وللنهضة العلمية التي هي أساس نهضة أيّ مجتمع. فلا يعود من الممكن فصل أزمة النظام التربوي كي لا نقول اقتصاده السياسي عن جوهر الأزمة المالية والاقتصادية التي نمرّ بها.
الإيجابية الخامسة هي اكتشاف حقيقة أنّ الفساد المستشري يطرح مسألة إعادة النظر في جسم القضاء اللبناني. فلا إصلاح من دون قضاء مستقل وكفؤ. هذه بديهية أصبحت متداولة عند كافة مكوّنات المجتمع اللبناني. والمسألة هنا أيضاً ليست مسألة إذا بل مسألة متى وكيف.
الإيجابية السادسة هي أنّ جائحة كورونا وإيقاف العجلة الاقتصادية أدّت إلى بعض الإيجابيات الحيوية لم تكن في الحسبان. فالتراجع الاقتصادي أدّى إلى تراجع في الاستهلاك والتراجع في الاستهلاك أدّى إلى تراجع في تراكم النفايات. والتراجع في النفايات أدّى إلى تراجع في التلوّث ما جعل الوعي بالبيئة أكثر انتشاراً وملموساً من قبل اللبنانيين.
الإيجابية السابعة ناتجة عما سبق. فالتراجع في الاستهلاك أدّى إلى تراجع في الاستيراد الذي أدّى إلى انخفاض المتطلّبات على الدولار. كما أنّ تراجع الاستهلاك فرض على اللبنانيين مراجعة جدوى الاستهلاك المفرط والمكلف والذي لا يساهم في ديمومة المدّخرات الوطنيّة. والتجربة تدلّ على أنّ التقشّف القسري الذي فرضته كلّ من الأزمة الاقتصادية والمالية وجائحة كورونا أنّ بإمكان اللبنانيين التكيّف مع واقع أكثر عقلانيّة مما كانوا عليه حتى الماضي القريب.
ليست هذه قائمة كاملة بالإيجابيات التي يمكن أن نسترسل أكثر بها. الغرض من عرضها هو ضرورة النظر إلى الأزمة التي يمرّ بها لبنان من زاوية أخرى تتجاوز ثقافة الجلد بالذات وترويج مقولة «فالج لا تعالج». فاليأس ليس في قاموسنا ولا يجوز أن نسمح أن يتحكّم بسلوكنا وتفكيرنا رغم كلّ الإحباط والمآسي التي نشهدها. فبالعكس الشعوب الحيّة هي التي تستطيع تحويل العقبات والكوارث إلى فرص، ولبنان شعبه حيّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث وكاتب اقتصاديّ سياسيّ والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.