الصّورة الشّعريّة في الومضة*
} أ.د درية فرحات**
الشّعريّة مفردة حديثة الاستخدام، لا نجدها في المعاجم العربيّة، كما لا تتضمنها القواميس الأجنبيّة، وقد شاء جاكسبون من هذا اللفظ مدرسة جديدة في كتابه «قضايا شعريّة»، ومع ذلك فإنّ التّراث العربيّ يحتشد بالمفردات المرادفة التي توحي بالمعنى المتوخّى وهو عمل الشّعر. وحفلت كتب النّقد التّراثيّة بكلمات تقودنا إلى عمل الشّعر أو صناعته أو علم الكتابة الشّعريّة وفنّه.
وقد ارتبطت هذه المفردة بالأغلب مع مفردات أخرى ملاصقة لها، ومنها الصّورة الشّعريّة، واهتمّ النّقد العربيّ القديم بالإبداع الشّعريّ، فيذكر الجاحظ حقيقة الفنّ الشّعريّ حين قال «إنّما الشّعر صناعة وضرب من الصّبغ وجنس من التّصوير».
والحديث عن الصّورة الشّعريّة يتشعّب ليحتوي مناحي عدة، منها أنّها مرتبطة بالخيال، فهي نتاج خيال الأديب وأفكاره، وعبرها يستطيع الشّاعر أن يغوص خلف الأشياء، ويصطاد أبعاد المعاني، وبهذه الطريقة يعبّر عمّا في قلبه ليصل إلى المتلقي. وهذا يتطلّب أن يكون الشّاعر صاحب خيال واسع. فالسّؤال المطروح دائمًا هو ما الذي يجعل من المرسلة الكلاميّة عملًا فنيًّا؟ ونحن ندرك أنّه لا بدّ للمرسلة من طرفين المرسِل والمرسَل إليه، الأوّل يرسل والثّاني يتلقى في مكان وزمان معينين. ومن أسباب نجاح هذا التّواصل قدرة المرسل على تفجير الخيال وإيصاله المراد إلى المتلقي، ومن الطّبيعيّ أنّه يتقصّد طرقاً عدة منها التّشبيه والاستعارة والمجاز والكناية وقد يحتاج إلى الرّمز.
وهذا ما يُسهِم في الحكم على الشّاعر وتمايزه عن الآخرين، فتصبح الصّورة مقياسًا يُقاس به موهبة الشّاعر، فنجاحه وفشله مرتبط بما يقدّم من قدرات تصويريّة تساعده في نقل تجربته وإحساسه إلى الآخر عبر الخيال، لهذا تعدّ الصّورة الشعريّة عنصرًا بنائيًّا بالغ الأهمية في بنية النّص الشّعريّ. فهي تشكّل مجموعة من العلاقات اللّغويّة التي ينتجها الشّاعر، من خلال قدرته على استخدام اللّغة بشكل جديد، يحدث بين ألفاظها ارتباطات غير مألوفة، ومقارنات غير معهودة، فيخلق صوره المتنوّعة.
ويلجأ الشّاعر الماهر إلى اللاوعي لينقل شعورة وتجربته عبر الاستناد إلى الرّموز المتباعدة في المكان والزّمان، أي أنّ الصّور التي يأتي بها الشّاعر لا علاقة لها بالواقع إنّما هي من ابتكاره وإبداعه، وكلّما اجتهد في صوره وابتعد من الصّور المستهلكة كان قادرًا على جعل الصور أكثر تعبيرًا عن الواقع الذي يعيشه وخرج عن السّائد الممجوج.
والخروج عن السّائد يقود إلى الومضة، وهي لغةً من وَمَضَ البرقَ، ولها تعريفات كثيرة تلتقي كلها في الإيجاز والتكثيف، ويعرّفها النقاد بأنها قصيدة قصيرة، مكثّفة، موحية، تترك أثراً يشبه الوميض في المتلقي، وما الومضة إلّا عالم خياليّ مركّب على نحو خاص، تعتمد اللّحظة أو المشهد السريع الذي يبرق في مخيّلة الشّاعر، فيصوغه بأقلّ الكلمات المعبّرة عن الدّلالات الكثيرة، وهي وإنْ كانت تعبّر عن عصر فيه السّرعة والاختزال، إلّا أنّها لم تتخلَ عن عباءة الخيال المتوقد والحساسيّة المرهفة والوحدة الموضوعيّة والصّورة الشّعريّة.
وهذه اللحظة الانفعاليّة المختزلة تستدعي الذّكاء والبداهة من المرسل، وفي المقابل تحتاج إلى النباهة والبصيرة من المتلقي، ليكتمل النصّ. وفي ارتقاء اللغة عند الشّاعر يرفع المستوى الدّلالي للومضة، وتتحقّق شعريّتها من خلال شعريّة إطارها البنيويّ.
والحديث عن الصّورة الشّعرية في الومضة من خلال النماذج المطروحة أمامنا، يحفّزنا إلى البحث بشعريّة الومضة القائمة على شعريّة التّقابل والتّضاد، والمعبّرة على الحالة النّفسّية لدى الشّاعر، ونضع أمامنا إشكالية البحث عن جمالية شعريّة جزئيّة أو جماليّة سياق متكامل.
فإذا قرأنا في ومضة لطفي تياهي:
السّكر…
ضجيج القهوة كي لا نسمع صراخ…
بن مطحون
إنّها تقوم على جماليّة التضاد بين الضجيج/ لا نسمع، والحلاوة/ الطّحن، ويشكّل السّكر المحرّك الأساسيّ في هذه الومضة، واللافت أنّ الصورة الشّعريّة هنا حسيّة لأنّ عناصرها مستمدة من الحواس وخصوصًا الصور السّمعيّة، بين الضّجيج والصّراخ، وفي هذه الجمل يتشكّل المشهد أمامنا وكأن هناك جلبة تدور بين مكوّنات القهوة التي تنتظر الطّحن. في هذه الومضة ما يُشير إلى الحياة التي تطحننا بما فيها من مرارة، وفي الوقت عينه نبحث عمّا يضيف نكهة حلوة. وإذا نظرنا إلى صورة البنّ فإنّ حلاوته لن تتحقّق طالما لم نشعر بضجيج الحياة. هي صورة تجمع بين الألم والابتهاج الناتج عن حلاوة السكر.
وإذا انتقلنا إلى ومضته:
الأزقّة الضّيقة…
جراح فتحها المشرّدون…
في وجه المدينة.
نتلمّس في هذه الومضة صورة حسيّة بصريّة عبر رؤية المكان الذي تنفتح عليه الومضة، وهو الزّقاق الضّيق، وندرك ما في هذا الزّقاق من صعوبة في التحرّك لحجمه الصغير واكتظاظ النّاس فيه. والرّؤية تتّضح من خلال منح المدينة وجهًا، ولم يقدّم الشّاعر في هذه الومضة وصفًا لهذا الوجه، لكن من خلال تشكيل الصّورة الشّعريّة ونمط بنائها يظهر لنا هذا الجرح الغائر في وجه المدينة، وما هذا الجرح إلّا المشرّدون القاطنون في هذه الأزقّة. ومضة ترسم التّفاوت الطّبقي في المجتمعات، والعلاقة القائمة بينهما، فالأزقة كأنّها الجرح الذي يشكّل علّة الجسم السليم.
أمّا في ومضة عادل فتّاح:
قبر مزخرف لوفاة الزهر
تعبق منه رائحة الموت
مزهريّة
فإنّ الصّورة الشّعريّة هنا صورة حسيّة شميّة، ويتكشّف لنا الإسناد غير الملائم للفعل تعبق. هذا الفعل الدّال على عبق المكان بالطيب أي انتشرت رائحة الطّيب فيه، لكنّ اللافت هنا أنه أسند هذا الفعل إلى رائحة الموت. وهنا تبرز صورة الدّهشة والتّضاد، فكيف تمّ الجمع بين نقيضين؟ أو ربما السّؤال الأكثر دقة أين كان الجمع بين النقيضين؟ إنّه في قبر مزخرف، هذه الصّورة التي تسمح للمتلقي أن يبحث عن هُوية المدفون، هو الزّهر الذي قد يشير إلى روضة من رياض الجنة وما ذلك إلّا إذا كان شهيدًا أو طفلاً، فلا يكون إلّا الطيب العابق من زهوره.
وما يلفت اعتماد الومضة التّوازي الذي استطاع مع الصّورة إظهار القدرة على الجمع بين كثافة اللغة والصّورة، والتقاط صورة تعيشها، بومضة فيها عمق الدّلالة.
وتشير هذه الومضات بصورها الشّعريّة إلى أنّ اللفظ وحده لا يحدّد قيمة النّصّ، بل تكتمل هذه القيمة من خلال الصّورة الشّعريّة، خصوصًا لما تحمله من أبعادٍ محسوسة، وتتأكّد قيمة الصّورة في الومضة كنوع من الاختزال.
في هذه الومضات صور شعريّة متعددّة الأطراف تقوم على الصّورة الحسيّة، والحركيّة، فيها من خيال منتجيها الكثير، وما يهمّ فيها هو البحث عن المسكوت وفي ذلك مساحة للمتلقي أن يكشف ما فيها. فالنّص الوجيز يقوم على العمل التّشاركيّ بين المؤلّف والمتلقي.
* مداخلة ضمن ندوة صالون الأدب الوجيز في سوسة.
** أستاذة في الجامعة اللبنانية/ عضو ملتقى الأدب الوجيز.