الهويّة الاجتماعيّة للمرأة في ظل نظام “الهيمنة”
د. زينب مروة *
الهويّة في معناها ودلالتها مفهوم إشكاليّ دائم الانبناء، يصعب على الباحث حصر تعريفاته وصفاته المتكاثرة وليس من السهل أبداً تحديده والاتفاق على معناه، فقد تناوله الباحثون من حقول معرفيّة متباينة بالأفكار والإيديولوجيات، من دون الوصول الى حسم في مرجعيّته الاصطلاحية. لذا سنعمد الى قرأته باستحضار الربط بين الذات والآخر والاستدلال عليه في علاقة الوجود الفرديّ بالسياق المجتمعي وخصوصيته الثقافية.
إن الهويّة الاجتماعيّة للمرأة تأخذ تمظهراتها من مصدر أساسه البناء على تمايز الهويّات البيولوجيّة بين الذكر والأنثى وتحويلها إلى امتياز لأحدهما على الآخر في سياق ثقافيّ – اجتماعيّ. فالثقافة كما يقول ديفيد تشاني: “هي دوماً الجسر الذي يربط بين الأفراد وهويّاتهم الجمعيّة”.[1] ثم يضيف “ولكن بفضل قدّرتنا بوصفنا بشراً واعين لأنفسنا ومدركين قدراتنا، فإننا نخلق هويّاتنا، ونعيد خلقها على الدوام”.[2]
وعليه نجد أن الهويّة الاجتماعيّة للمرأة كما الهويّة الاجتماعيّة للرجل، كلاهما محاصَر وسط تنميط مجتمعي قائم على متخيّلات من التصنيفات الثقافية للصفات الذكوريّة والأنثويّة، فليس من مجتمع معروف في التاريخ يقوم على وحدانية المجانسة بين صفات أفراده ذكوراً وإناثاً، فالتصنيف والتنميط فعلٌ مجتمعيّ اصطلاحيّ، وفكرة التمايز تعود في جذورها إلى استغلال مقصود للناموس الكونيّ في الطبيعة البيولوجية لإحداث التمايزات بين البشر.
وهكذا تصبح هويّة المرأة خاضعة لإشكال في المعايير والتصنيفات بين صفات الذكورة والأنوثة أولاً وأخيراً وما يستتبع هذا التصنيف من تصورات ذهنية وممارسات وأفعال تصل الى حدود التهميش والقمع. مع ضرورة التنبيه الى أنه لا يمكن مواجهة الإجحاف الاجتماعيّ على المرأة بتعصّب نسويّ ضد الرجل، فلا يُحارب الجهل بالجهل. ولا تواجه الرؤية الناقصة برؤية ناقصة. ولكي تستقيم الرؤية على توازن صحيح في علاقة الطرفين فإنه من الضروري أن نبتعد لزاماً عن النظر إلى البيولوجيا بمنظار ثقافي ولا إلى الثقافة بمنظار بيولوجيّ وأن ننتبه لضرورة الفصل بينهما في مستويات التحليل والتفسير والتعليل وبناء الترابطات والإسقاطات والاستنتاجات.
فالصور الذهنيّة لكل جنس عن الجنس الآخر تجعل من كل مفاصل الأنساق الاجتماعيّة – الثقافية قائمة على بناءات من الهيمنة والسيطرة تُعيق سيرورة المجتمع عن النهوض الحضاريّ وتُبقيه أسير التخلّف، وهو ما يشير إليه بالتحليل الدكتور هشام شرابي في مؤلفه الفكري “النظام الأبويّ وإشكاليّة تخلف المجتمع العربي” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربيّة (1992).
أما عالم الاجتماع الفرنسيّ بيير بورديو فقد رأى في كتابه “الهيمنة الذكورية” (1998)، أن قوة النظام الذكوريّ تكمن في قدرته على تقديم نفسه كمحايد، ويشترك الذكور والإناث بشكلٍ لا واعٍ في تبنّي التصورات والمقولات التصنيفيّة ذاتها، وتُستثمر كلّ أدوات التخفي والاحتجاب (مثل اللاشعور) لممارسة المخاتلة والمراوغة والخداع، كما يتم توريث التفاضل الجنسيّ المسكون بالبطريركيّة عبر «العنف الرمزيّ» الذي يحوّل النساء مجرد أشياء للتبادل تحقيقًا لمصالح الرجال، ودور مؤسسة الأسرة كـ «حارسة للرأسمال الرمزيّ»، لذلك تتطلب مقاومة هذه الهيمنة ثورة معرفيّة تقوم على مبدأ التدرّج والتراكم.
إن وضعيّة المرأة في مجتمعاتنا العربيّة المعاصرة هي وضعيّة مركبة ناجمة عن تفاعل العديد من المتغيّرات الاقتصادية والاجتماعيّة والثقافيّة والتاريخيّة. فهذا العالم العربي ما زال يخضع لمنطق البداوة في الوقت الذي نرى هذه البداوة ممتدة في كل أشكال سلوكنا وعلاقاتنا وتفاعلنا، ولن نستطيع أن نغير هذا الواقع إلا بالخروج من هذا النمط الذهنيّ في التفكير. فأي عقد اجتماعيّ نطمح إليه لنخرج من عقل البداوة إلى عقل يواكب عصرنا ويتماشى مع واقعنا وراهننا؟
إن العقل العربيّ استلبته فكرة أن الدين يضمر سلطة تسمح له بتأسيس دولة. وأخذ يفتش عن الدولة في العقد الدينيّ، بينما الدولة شأن مجتمعيّ وليست شأناً دينيّاً، وذلك بيّن في التجربة الغربيّة، فحين أزيح التسلط الدينيّ عن المجتمعيّ في الغرب ظهر المجتمعيّ بصيغته التي تسمح بقيام السلطة على أساس إرادة الناس ووفق قوانين وضعيّة تصوغ علاقاتهم في ما بينهم وكانت الدولة. خلاصة القول إن واقعنا العربيّ يحيا في ظل اشتباك ملتبس بين سلطة الدينيّ من جهة ومستلزمات قيام سلطة السياسيّ من جهة أخرى. وطالما أن العقل السياسيّ العربيّ هو عقل يحكمه المنظور الدينيّ – السياسيّ؛ فإن المنظورات التقليدية ستبقى متحكمة في إنتاج المجتمعي وإعادة تكريسه، وستبقى قضايا كثيرة مثل قضية المرأة غائبة تحت ركام الانقسامات المذهبيّة والطائفيّة ومانعة لتشكيل فضاء عام تظهر فيه شخصيّة الجماعة المدنية وتسمح للمرأة بالتحرّك والتعبير بعيداً عن معوقات وقيود التقليد والتقاليد. وهذا إشكال معرفيّ برسم المثقفين ليتولوا الإجابة عليه.
بناءً على ما تقّدم، وفي محاولتنا التّعرّف على كيفية اشتغال هذا النظام الذكوريّ والأبويّ بمنهج استقرائيّ – استنباطيّ وبأدوات التقّصي السوسيولوجيّة وفي مقدّمتها “الملاحظة” نستخلص ما يلي:
1 – إن جملة السلوكيات التي نراها بين الناس تظهر على شكل عادات متكرّرة تتناسب كل عادة مع ظرف اجتماعيّ أو موقف محدّد، والعادة تتكوّن بالممارسة المتكررة للسلوك الذي يصبح بسبب التكرار ثابتاً لا يتغير.
وهكذا هي حال العادات الاجتماعيّة التي تتحوّل مع الزمن إلى قوالب للسلوك الجامد، وتظهر وكأنها متأصلة في بنية العلاقات الاجتماعيّة وكأساس معياريّ لتمييز الصواب من الخطأ. علماً أن السلوك وبحكم التكرار اللامفكّر فيه يتحوّل عادة، وفي هذه الحال يكون السلوك محدّداً للعادة. بينما إذا استيقظ الانتباه ووعينا ما نفعل من سلوكنا فإنه بإمكاننا أن نعدّل عاداتنا وهنا يصبح وعينا لسلوكنا ضابطاً عاداتنا. وكذلك الأمر في ما تعوّدنا عليه في تفكيرنا وما نعتقد. فالانتباه الواعي شرط التغيير ولا تحصل إرادة للتغيير بلا معرفة ووعي وانتباه.
2 – إن المجتمع يمارس آليات الضبط على الذكور والإناث معاً من خلال مورثاته وتقاليده والعادات السائدة فيه. ونظام السلطة الأبويّة يعتمد على تسلسل هرمي يضع الرجل / الأب / السيد على رأس السلطة الهرميّة المسيطرة ويعطي لمفهوم الذكورة جملة من الحقوق والامتيازات بسبب امتلاك الرجل / الذكر تاريخياً للقدرات الجسديّة التي تمنحه القوة، ومَن يمتلك القوة يحكم ويسود بالغلبة كما في شريعة الغاب، وقد أخذ الرجل/ الأب / السيد من الفروقات في القوة بينه وبين المرأة وحوّلها إلى تفوّقات قامت على أثرها جملة من التفريقات في المراتب والأدوار بين الجنسين.
إن سطوة النظام البطريركيّ تستبطن العنف بكافة أشكاله ومنها العنف الرمزيّ الذي يجعل من العبد يقبل أن يكون عبداً لأن السيد هو السيد.
والسؤال الذي نطرحه اليوم: هل معياريّة القوة الجسديّة لدى الرجل تبّرر له التعنيف والقمع واستضعاف الآخرين وعلى رأسهم المرأة؟
إن معيار القوة التي تسمح بالسيطرة على الأجساد الضعيفة قد أزاحته عن مركزيّته التطوّرات المتسارعة التي يشهدها عالمنا المعاصر وأضحت قوة العقول والأدمغة القادرة على إنتاج المعرفة هي إحدى أهم أدوات الصراع من أجل امتلاك السيطرة والهيمنة. فالمعرفة اليوم هي القوة الحقيقيّة وهذا ما نراه في الصراع على التفوّق والتفرد في إنتاج لقاحات مضادة لكوفيد-19 وكذلك في حروب 4G و 5G….، ولذا فلا تمييز ها هنا على أساس النوع الاجتماعيّ بين أدوار الرجال والنساء أو هكذا يجب أن يكون، فالعلاقات المتكاملة والمتفاعلة هي معيار كوني. وهذا ما أشارت اليه الفلسفة الهرمسية بقولها في المبدأ السابع من مبادئها وتحت عنوان: مبدأ النوع أو الجنس Gender: الجنس موجود في كل شيء. كل شيء له ذكريّته وأنثويّته. وهذا المبدأ يعبر في كل المستويات، ليس فقط على المستوى الفيزيائي، بل أيضًا على المستوى العقلي العاطفي.
والأمثلة حول الثنائيات المتجانسة والمتكاملة أكثر من أن تُعّدُ وتحصى، فكيف يمكن للخطاب الذكوري أن يزيح معياراً كونياً عابراً لكل الوجود ويصبح كل شيء إنساني عنده منظوراً له من زاوية ذكوريته، متناسياً بأن نظيره من الأنس الآخر هو انثى؟[3]
إن الذكورة والأنوثة ليستا على طرفي نقيض بقدر ما هما على طرفي تكامل وتفاعل؛ وما التناقضات سوى تجسيدات وإسقاطات لتقسيمات ثقافية واجتماعيّة متخلّية مترسّخة في المخيال الجماعيّ للمجتمعات البطريركية، تعبّر عن نفسها في تنميط مجتمعي لأدوار كل من الذكور والإناث بحيث تعتبر بأن بعض الصفات هي حكر على فئة (كالبكاء للإناث مثلاً، القوة للذكور…) فتتحدد الأدوار الاجتماعيّة وفق ثنائيّة متضادة الأقوى والأضعف.
أخيراً، إن تصحيح الواقع القائم يستدعي بداية إعادة النظر في منظور المقاربة الفكرية المسيطرة على مجتمعنا وتبني رؤية حضارية لمعنى الوجود الإنساني في تنوّعه بين الذكورة والأنوثة، وهو ما يستلزم بالضرورة القيام بعمليّة تشاركيّة مندمجة لكل القوى الفاعلة في الحقل الاجتماعيّ، لتأخذ على عاتقها مسارات التحول وبناء الإنسان الجديد.
[1]آدم كوبر، الثقافة : التفسير الأنتربولوجيّ – ترجمة تراجي فتحي – سلسلة عالم المعرفة – العدد 349 آذار2008 – الكويت – ص. 261.
[2] توني غدنز – علم الأجتماع – ترجمة وتقديم د. فايز الصيّاغ – المنظمة العربية للترجمة – مؤسسة ترجمان – ط.1 – بيروت -2005 – ص 92.
[3] النظريات الكونية في منظور الهرمسية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذة جامعيّة في كلية الإعلام ومعهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانية.