أخيرةثقافة وفنون

كرسيّ على الزَّبد لمحمد علي شمس الدين..تداعيات عن الجميل القتيل

د.عبد المجيد زراقط

«كرسيٌّ على الزَّبد» مجموعة شعريَّة للشاعر الكبير محمَّد علي شمس الدين (دار الآداب)، تتألَّف من ثلاث مجموعات هي: «أغاني الكورس» و»تسع قصائد إلى حافظ» و»مقاطع إلى الجميل». والملاحظ أن ليس من علامات ترقيم في نصوصها، كأنَّها جميعها أغنية واحدة من أغاني «الكورس» غنيَّة بالإيقاع على مختلف المستويات: الوزن والقافية والتنغيم المتنوِّع.

قرأت هذه المجموعة غير مرَّة، وأُعيد الاَن قراءتها، في هذا الزمن الذي يتكثف فيه صدأ الحياة، لعلَّ الشعر الجميل يجلو هذا الصدأ، ويجعل العيش محتملاً، كما جاء في أصل حكاية الشاعر: «أصل الحكاية أنَّ الشعر كأس طِلى / والخمر أجمل ما يروي اذا انسكبا» (ص. 146).

بدا لي، وأنا أنتقل الى عوالم الحكاية، أنَّ الكتابة عن هذه المجموعة قد لا تفيها حقَّها؛ وذلك يعود الى ما عبَّر عنه الناقد العربي الكبير الآمدي: «أنَّ من الأشياء أشياء تدركها المعرفة، ولا تحيط بها الصفة»، ومن هذه الأشياء الشعر الحقيقيّ الذي يتعدَّد إبداعه بتعدُّد متلقِّيه، وذلك لأنَّه يمتلك فاعلية أن ينشئ لدى كل متلقٍّ، ولدى كلِّ تلقٍّ، نصَّاً جديداً.

أُعيد قراءة هذه المجموعة، ونحن، في زمنٍ، ننزل فيه درجات جهنم درجةً تلي درجة، فتتالت في خاطري تداعيات أحاول أن أصوغها في نصٍّ أرجو أن يكون كاشفاً، أو زبدة من هذا الزَّبد الذي يجلس الشاعر على كرسيِّه.

غلاف المجموعة: زرقة بحر يموج، وراءٍ يجلس على كرسيٍّ فوق ما يفضي إليه الموج من زبد.

الزَّبد، كما هو معروف، هو خلاصة الشيء وخياره وأفضله، وهو ما يُستخرج بالمخض من اللبن، وهو ما يستخرج بالمخض من أحداث الحياة، وما يستخرج بالموج المرغي والمزبد من البحر.

العنوان: «كرسيٌّ على الزَّبد» دالٌّ على الجلوس المتأمِّل هذا الزَّبد والرَّائي إليه، وهذا ما يفيده ما جاء في القصيدة الأولى: «عصفورة اسمها الحياة»: «جالساً على مقعد فوق هذا الزَّبد… وناديت طيري الغريب ليأتي، أيا نورسي وحبيبي، فلم يأت… « ( ص. 10 و11). يحفِّز هذا كلُّه تداعيات أسوقها كما يأتي:

ما تمخَّضت عنه أمواج البحار وأساطير الأرض هو أنَّ عشتار الفينيقيّة وأفروديت الإغريقيّة وفينوس الرومانيّة…، وهن جميعا إلهة واحدة، تشكَّلت من زبد البحر، وخرجت منه، فكانت الخارجة من الزَّبد، إلهةً هي إلهة الجمال والحب والبهجة والفرح… شغُفت بـ»أدونيس»، الفتى الجميل، فهجرت مقامها، وازدرت حبَّ الآلهة، وراحت تتبعه في الصَّيد في غابات جبال لبنان، فاستبدَّت الغيرة بمارس، وتحوَّل إلى خنزير وحشيّ، وقتل أدونيس، فبكته عشتار طويلاً، وأحيته دموعها، وعاد الجميل مع الربيع…

هذه هي حكاية «الجميل» في الأسطورة، أمَّا حكايته في واقعنا المعيش الذي ننزل فيه سلَّم الجحيم، فهي الحكاية نفسها ما عدا فارقاً مهمّاً جداً، وهو أنَّ الخنزير الوحشيّ تمثل «خنازير فساد»، نبتت في ربوع هذا الوطن الجميل، وغدت قادته إلى الجحيم، والخشية أن لا يجد عشتار تحبّه وتحييه، فـ «أخوة يوسف» كانوا أرأف بأخيهم من «خنازير الفساد» بوطنهم الجميل، فهؤلاء الفاسدون أجابوا عن السؤال الذي طرحه الشاعر: «هل تهديه مغلولاً الى «ذئب الهلاك؟»، بنعم (ص. 21).

الطائر الذي ناداه الشاعر، الجالس على مقعد على الزَّبد، لم يأت…، فيقول الشاعر: «أنا تنهيدة الغريق على البحر المسجَّى… « (ص. 12). السؤال:  لمَ؟ هل يعود السبب الى أن «خنازير الفساد» حوَّلوا الوطن الجميل جحيماً؟ إن يكن الجواب نعم، نسمع صوتاً آخر. يقول الشاعر: «هي البحار وعكازي على الزَّبد» (ص. 85). ينزل الشاعر عن كرسيّه، ويحمل عكازه… تتعدَّد الأصوات، وتتشكَّل حواريّة، ويُطرح  السؤال: ماذا يستطيع أن يفعل طائر في هذا الجحيم، والشعر، غناء المغني، يغدو عكازاً على الزَّبد؟

سأل الياس أبو شبكة هذا السؤال عندما قال: «عصفور صغير طار… طار… ماذا يستطيع عصفور صغير؟».

من على الكرسيِّ، وهذه المرة تكون الكرسيُّ على زبد بحار الذات. يقول الشاعر: «عصف الموج عصفه في بحاري/ وضلوعي كأن قلبي خليج… كورس الريح هلّلويا… «. من هذا الموقع، يقول الشاعر: «فانظر إلى مرآة قلبك / لترى جمال الغيب حين يُضاء» (ص. 79)، واذ ينظر الى مرآة قلبه ليرى جمال الغيب، يسأل: «أيُّ سرٍّ في الناي أودعه الله، فغنَّى وصدره مثقوب؟!»، ويغنِّي…

 يرى الشاعر/ مالك سرِّ الناي المغنِّي وصدرُه مثقوب الى الحياة، وينظم لـ «الكورس» أغانيه، كما كان يفعل شعراء التراجيديا الإغريقيّة، ويغنِّي «الكورس» الشعر في أثناء العرض المسرحي، في المقدِّمة، وعند الدُّخول، وفي بداية كلِّ فصل، وعند الخروج، فلمن يغني «الكورس» في هذه المجموعة؟

يغني للحياة، لـ «عصفورة اسمها الحياة». هذا هو عنوان القصيدة الأولى من مجموعة: «أغاني الكورس». يغني «الكورس» لمسرح الحياة، كي «يغزل غزالاً من ظنونه»، وبغية تحقيق ذلك يستحضر، عندما تطير العصفورة / الحياة في الكتاب، شاعراً عالمياً كبيراً هو حافظ الشيرازي، ويغني له تسع قصائد، ويغني لـ «الجميل» مقاطع، لعلَّ الشعر / الأغنية يعوِّض الفقد، بعد أن «لم يبق شيء سوى الخوف، ما يجعل القلب كالقنفذ المستباح، في هبوب الرياح» (ص. 161).

يريد للعصفورة التي اسمها الحياة التي تبني في الأرض عشَّاً ضئيلاً: «حاولي أن تطيري لحظة في الكتاب»، لترسم خيطاً يفصل فيه المدى عن أخيه الردى، ويستحضر شعر الشعراء وحكاياتهم: حافظ الشيرازي وجوزيف حرب، «يوسف» المنذور للرؤيا، وامرأ القيس، ووضاح اليمن وخولة المتنبي ومجنون ليلى والشنفرى وجلال الدين الرومي وشمس تبريز ومالارميه… يغني لهم ومعهم ويهتدي بهم، وبرؤى الأنبياء وحكاياتهم: وضوء آدم وأحزان نوح وهاجر إبراهيم التي لم تزل تمشي، ويقتلها الحنين إلى الماء، وتأويل يوسف وكلام موسى على الطور، وجبروت داود وحكمة سليمان، وأُحد محمد…

تطير هذه العصفورة / الحياة في الكتاب، وتبيض زبدها، لكن «الوطن الجميل» الذي نغنِّي له أغنية الشاعر: «أغنية الى الجميل والنحيل»، ومنها: «قمر الورد على الشرفة يطفو / كان عند الفجر كالفجر بليلا / فجأة / نام على الأرض قتيلا…». قتله وحوش هذا الزمان: «خنازير الفساد» و»ذئاب الهلاك» الذين يتجدَّدون منذ ذلك الزمان، والمأساة تتمثل في أنَّ «عشتار/ أفروديت / فينوس» هذا الزمان يستحضر ما قاله خاتم الأنبياء: «دثِّريني»، لكنه يضيف ما ينطق بعجزه: «فأنا أرتجف الآن من الخوف، وما كنت نبيَّا» ( ص. 129).

كانت هذه تداعيات عن الجميل القتيل، أملتها مجموعة شعرٍ حقيقيٍّ تملي لكلِّ متلقٍّ لها نصَّاً جديداً.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى