مركز ثقل العالم ينتقل شرقاً… وطهران مركز تقاطع التاريخ والجغرافيا
محمد صادق الحسيني
ثمّة حدث بنيويّ على مستوى العالم في طريقه للوقوع من شأنه تغيير شكل وجوهر خريطة التحالفات وموازين القوى العالميّة.
وهو يؤسّس لمرحلة جديدة من التحوّلات والتحديات تتراجع فيها قوى فيما تصعد أخرى لتشكيل جغرافيا آخر الزمان أو ما يُسمّى لدى الأيديولوجيين جغرافياً عصر الظهور…
قوى تقليدية كبرى تتراجع وتضمر فيما قوى جديدة ستأخذ محلّ الصدارة في عالم مليء بالمفاجآت…
في العام 2002 وفي أوج تدافع العالم وتشابكاته بين مَن يدعو لصراع الحضارات (هانتينغتون) ومَن يدعو للحوار بين الحضارات (محمد خاتمي) يقوم الرئيس الصيني بزيارة إلى إيران هي الأولى له بعد الثورة الإسلامية ليعبّر عن تضامنه مع التيار الإيراني المعتدل والعقلاني مقابل الغرب المتوحّش الذي كان يريد الانتقام من كل ما هو غير أميركيّ، بما فيه اوروبا التي كانت بدأت تصفها معاهد الدراسات الأميركية بانها جزء من النصف المظلم من العالم وتحضر لصعود نظرية (نهاية التاريخ) لفوكو ياما، ويتوّج لقاءه بالإمام السيد علي الخامنئي…
يومها كان الخامنئي يعدّ لورقة سمّاها في ما بعد الخطوة الثانية للنهضة الإيرانية الصاعدة…
وساعتها بالذات رأى الامام الخامنئي بان اللحظة مناسبة ليقترح على الرئيس الصيني تحالفاً استراتيجياً ضد العنجهيّة والتوحّش الأميركي المتفاقمين…
في تلك السنة اعتذر الرئيس الصيني قبول العرض موضحاً ان بلاده لم تنهِ بعد استعداداتها لعمل كهذا، وهي بحاجة لتنضج ورقتها الخاصة بها في المواجهة ضد أميركا أولاً ومن ثم لكل حادث حديث…
عاد الرجل إلى بكين من دون ان تحدث الزيارة تحوّلاً مهماً في علاقات البلدين عدا انطباعاً لافتاً لديه بوجود جرأة عالية لدى إيران على النظام الدولي التقليدي الذي كان يئن منه العالم واعتقاد راسخ بان لدى الإمام ما يقوله… لينهمك في ما كان يعدّه حزبه من منظومة تحدّ للإمبراطورية الأميركية عرفت في ما بعد بمبادرة «حزام واحد طريق واحد» القاضية بإخراج أميركا تدريجياً وبالاقتصاد وليس بالمواجهة العسكرية عن تصدّر المشهد الدولي للعالم كما نقل لنا السفير المخضرم يومها لي شينتاغ.
لكنه لما عاد الى طهران في العام 2016 أي بعد 14 عاماً في ظلّ ظروف دولية اعتبرها مؤاتية وهي خروج إيران من حصار دولي منهك، ونضوج منظومة مبادرته الاقتصادية المعروفة بطريق الحرير، كان هذه المرة هو المبادر في عرض التحالف على الإمام السيد علي الخامنئي…
لعلّ المتابعين والمحللين والباحثين يذكرون انّ موضوع عقد اتفاقيه استراتيجية، بين جمهورية الصين الشعبية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، إنما طرح لأول مرة في ذلك الوقت بالذات وأخذ يخضع للبحث والدراسة والتمحيص، من قبل الطرفين، اي منذ شهر 1/2016، حيث طرح هذا المشروع على بساط البحث، أي مباشرة بهد انتهاء الرئيس الصيني شي جين بينغ الى طهران في ذلك التاريخ، حيث جاء في بيان مشترك، صدر عن محادثات الرئيسين، بينغ وروحاني، «أن البلدين قد اتفقا على إجراء مفاوضات لعقد اتفاق تعاون موسّع لمدة 25 سنة»، ينص على تعاون واستثمارات في مجالات مختلفة لا سيما النقل والموانئ والطاقة والصناعة والخدمات».
أيّ انّ هذه الاتفاقية الاستراتيجية، التي تم توقيعها يوم السبت الماضي في طهران، من قبل وزيري خارجية البلدين وانغ يي ومحمد جواد ظريف، ليست وليدة اللحظة وإنما هي نتيجةً لدراسات وأبحاث معمقة، نظراً لطبيعتها الاستراتيجية، التي ستسفر عنها نتائج هامة، في المجالين الاقتصادي والسياسي، وعلى صعيد العالم أجمع، وليس فقط على صعيد العلاقات الثنائية بين البلدين، او على علاقتهما بدول الإقليم فقط، وذلك للأسباب التالية:
1 ـ الحجم الهائل للاستثمارات المتبادلة، التي سيتم الاتفاق عليها في هذه الاتفاقية، والتي ستصل الى 600 مليار دولار، خلال العقد الثاني من القرن الحالي. حسب ما كتبته صحيفة «بتروليوم ايكونوميست»، في شهر 9/2019، حيث أوضحت بأنّ الصين ستستثمر ما مجموعه 280 مليار دولار في صناعة النفط والغاز الإيرانية، إضافة الى استثمار 120 مليار دولار في قطاع النقل وبناء مطارات وموانئ الى جانب مبالغ كبيرة أخرى لم يعلن عنها حتى الآن، في مجالات أخرى.
أما صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية فقد نشرت في شهر 7/2020، أن هذه الاتفاقية هي عبارة عن شراكة اقتصادية وأمنية كاملة وأنها لن تقتصر على مجال دون غيره، اذ ان من بين المجالات الهامة، التي سيجري تطويرها في إيران، هو مجال البنى التحتية للجيل الخامس في شبكات الاتصالات (G5)، الى جانب تجهيز البنى التحتية لتشغيل نظام تحديد المواقع العالمي الصيني الجديد (ليكون بديلاً عن نظام: جي بي إس المستخدم حالياً).
2 ـ الطبيعة الشمولية أو الشاملة لهذه الاتفاقية، التي تغطي قطاعات الاقتصاد الإيراني الاساسية، مما يجعلها أقرب إلى خطة إنجاز للبنى التحتية اللازمة لتنفيذ جزء هام من مشروع الصين العملاق، حزام واحد طريق واحد، الأمر الذي يجعل هذه الاتفاقية أقرب الى قاعدة انطلاق، لتعزيز وتسريع الخطوات التالية، المرتبطة بتنفيذ هذا المشروع الصيني، خاصة باتجاه دول آسيوية عديدة محيطة بإيران، من خلال إنشاء شبكات سكك حديدية تربط هذه الدول مع الموانئ الإيرانية، إلى جانب الدول الأفريقية والأوروبية، من خلال الطرق التجارية التي تربط الموانئ الإيرانية عبر التاريخ بأفريقيا وآسيا، انطلاقاً من شمال المحيط الهندي ومضيق هرمز والبحر الأحمر (وهذا ما يفسّر مشروع الحرب الأميركية الإسرائيلية السعودية على اليمن بالمناسبة).
3 ـ إنّ هذه الاتفاقية الاستراتيجية سوف توفر لإيران عمقاً استراتيجياً هاماً وشريكًا دولياً يسارع الخطى للتربع على عرش العالم، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، الامر الذي سيساعد إيران بقوة على تجاوز التأثيرات السلبية للعقوبات الأميركية، الاقتصادية والمالية، عليها، كما سيساعدها في الاستغناء عن الشركات الأوروبية المختلفة التخصصات والتي تخلت عن السوق الإيرانية خضوعاً للأوامر الأميركية.
اي انّ البدء بتنفيذ هذه الاتفاقات سوف ينعش الاقتصاد الإيراني بشكل كبير جداً، مما سيدفع بإيران الى مزيد من التقدم المعرفي والعلمي والتكنولوجي والصناعي، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على حياة ملايين الإيرانيين الذين فرضت عليهم عقوبات قاسية حرمتهم من الاستفادة من ثروات بلادهم ونالت من مستوى حياتهم وزادت من معاناتهم ليس لسبب إلا لأنهم قرّروا رفض الهيمنة الأميركية على مقدرات بلادهم، التي قرّروا ان تكون تحت سيادتهم وفي خدمة شعبهم وليس في خدمة الشركات الأميركية والأوروبية المتعددة الجنسيات.
4 ـ كما أنّ من الضرورة بمكان النظر الى هذه الاتفاقية من منطلق توقيت توقيعها، الذي يجري الآن، اي بعد مرور سنة على المبادرة الاستراتيجية الصينية، الخاصة بـ «الشرق الاوسط»، والتي طرحت في اجتماعات الدورة التاسعة لمنتدى التعاون العربي الصيني، التي عقدت في شهر تموز 2020.
وأهم ما جاء في تلك المبادرة يومها :
الدعوة للاحترام المتبادل، الالتزام بالعدالة والإنصاف، تحقيق عدم انتشار الاسلحة النووية، العمل سوياً على تحقيق الامن الجماعي، وتسريع وتيرة التنمية والتعاون. وقد اتبع وزير الخارجية الصيني وانغ يي، الذي مثل بلاده في الاجتماع المشار إليه اعلاه، يومها طرح هذه المبادرة بتصريحات زادت من وضوحها وأكدت أهميتها، عندما قال خلال الاجتماع: «لا يجوز للمجتمع الدولي اتخاذ قرارات بشأن منطقة «الشرق الأوسط» بدلاً عن شعوب المنطقة».
وتابع قائلاً: «إنّ الجانب الصينيّ يدعم بكل ثبات جهود دول «الشرق الأوسط» في الدفاع عن سيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها… وأن الصين ترفض أي تدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة مهما كانت الحجة».
وهذا يعني بشكل واضح جداً أن الصين ستدعم دول المنطقة، وعلى رأسها إيران، في التصدّي للعبث الأميركي الأوروبي فيها والمستمر منذ عشر سنوات، سواءٌ في سورية او العراق او ليبيا او اليمن او فلسطين المحتلة، التي تم تشريد شعبها وإقامة كيان الاحتلال الاسرائيلي على ارضه المغتصبة منذ عام 1948.
ولم يقف الوزير الصيني عند هذه التوضيحات وإنما أضاف وقتها ما هو أهمّ وأعمق لكلامه هذا، حيث قال: «إنّ الصين كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، وبلد كبير مسؤول، قد أصبحت (أيّ الصين) قوة محافظةً ومدافعةً ومساهمة بشكل حازم في النظام الدولي القائم (الراهن) والسلام والتنمية في «الشرق الاوسط».
وعلى الرغم من أنّ هذا الكلام ليس في حاجة للتفسير إلا انّ من الضروري التأكيد على أن الصين تكون قد أعلنت، من خلال هذا الكلام، أنها باتت قطباً اساسياً، ان لم تكن القطب الأساسي، في معالجة المشاكل الدولية والوقوف في وجه سياسات «الهيمنة الغربية وفرض الأمر الواقع بالقوة»، ما يعني انّ مثل هذه الأزمنة الرجعية والإمبريالية قد ولَّت الى غير رجعة.
5 ـ كما لا بدّ من الإشارة الى ان هذه الاتفاقية سوف تفتح آفاقًا جديدةً، على كلّ المستويات، لكلّ من العراق وسورية ولبنان، للانخراط بشكل فعّال، في مشروع طريق واحد وحزام واحد الصيني العملاق، مما سيؤدي الى نهضة اقتصادية عملاقة في تلك البلدان.
ويوسّع بالتالي مجالات التعاون بين الصين والدول العربية جميعها، التي قال عنها وزير الخارجية الصيني، في الاجتماع المذكور أعلاه، أنها أهم شريك تجاري دولي في العالم.
وعلى الرغم من أن إيران ليست دولة عربية إلا أنها، وبحكم الكثير من الأسباب والعوامل، جزء أساسيّ، لا بل قوةً إقليميةً كبرى، في منطقة غرب آسيا، الامر الذي يعني أننا أمام تشكل كتلة اقتصاديةٍ كبرى، يزيد عدد سكانها على 500 مليون نسمة وتمتلك ثروات هائلةً، يمكن ان تستثمر بالتعاون الإيجابي مع الصين، في تحقيق ازدهار شامل لشعوب المنطقة، على الرغم من بعض العقبات الموجودة حالياً، بسبب السياسات غير المدروسة لبعض الدول العربية، والتي لن توصل الى اية نتيجة ايجابية لشعوبنا، خاصةً أن هذه السياسات المتبعة من بعض حكامها، التابعة لواشنطن وتل ابيب، قد شكلت رأس حربةٍ لهجوم مضاد للمشروع الصيني طريق واحد وحزام واحد، وبتمويل من هذه السلطات الرجعية.
فها هو الرئيس الاميركي، جو بايدن، يقترح خلال حديثه الهاتفي مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قبل يوم فقط من زيارة الموفد الصيني لطهران، التفكير في إنشاء ما سماه «بديل ديموقراطي» لمشروع «طريق واحد حزام واحد» الصيني. ايّ انّ بايدن قد أعلن عن مشروع تخريبي للتعاون الصيني الإيراني ومن ثم تعاون الصين مع الدول العربية.
وهنا أيضاً من الضروري بمكان فهم ما اعلنت عنه الامارات العربية المتحدة، من استثمار 10 مليارات دولار في مشاريع اقتصادية مختلفة في الكيان الصهيوني، وذلك قبل أيام معدودة من جولة الوزير الصينيّ للمنطقة، على أنه خطوة أولى على طريق مسار تخريبي إماراتي، بالتعاون مع الكيان الصهيوني، لإلحاق الضرر بالمصالح الاستراتيجية لكلّ من الصين والدول التي تتعاون معها.
ومن هنا أيضاً فإنّ البعض يعتقد بقوّة، بأنه لا بدّ للصين من أن تعيد النظر في سياساتها الاستثمارية، في كلّ من تل ابيب وابو ظبي، خاصة انّ ولي عهد ابو ظبي هو من وقف شخصياً وراء تحريض وزير خارجية ترامب، مايك بومبيو، على تحذير تل أبيب بشدّة من الموافقة على تسليم إدارة ميناء حيفا لشركة موانئ صينية، كما انه هو نفسه الذي حرّض نتن ياهو، عبر دوائر يهودية معينة في الولايات المتحدة (رجل الأعمال اليهودي الاميركي
رون لاودَر كمثال) على منع مشاركة الشركات الصينية، في مناقصة لبناء محطة توليد كهرباء، في منطقة بئر السبع، والتي بلغت تكاليف إقامتها ملياراً ونصف المليار دولار!
إنه التنين الصيني الذي يتقدم بخطى ثابتة ومحسوبة بدقة في منطقة نفوذ تاريخية للولايات المتحدة الأميركية ويلاحقها بفطنة عالية وبقدر وهي تتراجع القهقرى يوماً بعد يوم وتحزم حقائبها مغادرة بلادنا بما فيها خيار ستصل اليه في يوم قريب واشنطن وهو التفكير جدياً بإغلاق قاعدتها المتقدمة في المنطقة وهي «إسرائيل» التي باتت تشكل مع الزمن عبئاً ثقيلاً على كاهلها…
وبهذا نكون قد دخلنا بالفعل عملية انتقال مركز ثقل العالم شرقاً مع ظهور قوى إقليمية وأقطاب عالمية مهمة في المسرح الدولي تكاد تكون فيه إيران بيضة القبان في ميزان معادلاته الجديدة في التاريخ كما في الجغرافيا.
بعدنا طيبين قولوا الله…