أخيرةثقافة وفنون

مخيم برج البراجنة: أم سعد والسقف العالي

حمزة البشتاوي*

بعد رحلة لجوء قسريّ من قرية الشيخ داوود قضاء عكا عام 1948، سكنت آمنة أحمد ياسين (أم حسين) في مخيم برج البراجنة وعُرفت لاحقاً بأم سعد في رواية الأديب غسان كنفاني.

وهي امرأة مكافحة تمتلك وعيها الخاص وتديّنها الفطريّ ولهذا تحوّلت إلى مرجعيّة للنساء الذين يلجأوون إليها ليس فقط من أجل الاستماع إلى أحاديثها بل أيضاً لتعالج أطفالهم بالبسملة وبيديها المباركتين من التهابات الأذن والبلعوم والحرارة المرتفعة.

وكانوا يسألونها بقضايا مختلفة ليعرفوا منها ما هو صحّ وما هو خطأ، ورغم أميتها كانت تحدّثهم عن الأوضاع السياسية والاجتماعية وتحثّهم على الصبر لكونهم أصحاب قضية ويندهشون عندما تستخدم أمامهم كلمات مثل ثورة الـ 36 والنكبة والعدوان الثلاثيّ والأنظمة ودور الجماهير.

وكانت صباحاً تذهب إلى منطقة قريبة من المخيم لتجمع ورق الشجر اليابس كي توقد به النار لتصنع الخبز وتغسل الثياب وتعدّ الفطور لأولادها ليذهبوا إلى المدرسة، وتتوجّه للعمل بعد أن تعرّفت إلى غسان كنفاني وتذهب إلى منزله في الحازمية بالبوسطة التي توصلها إلى منطقة مار تقلا البعيدة كيلومتر صعوداً سيراً على الأقدام، ومنذ أن دخلت منزل غسان كنفاني قدّمها إلى زوجته وأبنائه قائلاً: هذه السيدة من عائلتي وسوف تأتي إلى بيتنا لتساعدنا وتهتمّ بنا ونهتمّ بها، وكان اهتمامها بهم كاهتمامها بأولادها وخاصة محسن أو سعد والمعروف أيضاً لدى أبناء مخيم برج البراجنة (بأبو سلطان البرج) الذي التحق مبكراً بالعمل الفدائيّ.

وعندما عاد إلى لبنان تمّ اعتقاله من قبل السلطات اللبنانيّة وحُكم عليه بالإعدام. وهنا تحرّكت أم سعد العالية رغم السقف الواطي الذي يرزح تحته اللاجئون الفلسطينيون بلا مرجعية أو مؤسسات حقوقيّة لتتولى المهمة وتلتقي رئيس الحكومة اللبنانية صائب سلام وتخبره بما حصل لابنها الذي لبّى نداء فلسطين كما تقولون بالإذاعات وعندما عاد تم اعتقاله بتهمة نقل أسلحة وتوزيع منشورات وحُكم عليه بالإعدام..

وبعد انتظار أيام من دون رد ذهبت إلى منزل كمال جنبلاط الذي نصحها بالذهاب إلى الرئيس كميل شمعون فذهبت إليه والتقته مع زوجته السيدة زلفا وأخبرته بما حصل لابنها الذي لم يرتكب أيّ خطأ بحق لبنان بل كان يقوم بواجبه، وبعد جولتها تلك حُكم على إبن أم سعد ستة أشهر ليعود ويلتحق مجدّداً بالعمل الفدائي وتعود هي إلى المخيم الذي وصفته بالمليء بالقهر والقمع، وفي ظل حياتها المنذورة للحرية وفلسطين تعرّفت بغسان كنفاني وأصبحت هذه المعرفة مادة أساسية للرواية والراوي إلى حد وصف غسان لها بالمدرسة والشعب ويقول: لقد علّمتني أم سعد كثيراً وأكاد أقول إن كل حرف جاء في الرواية إنّما هو مقتنص من شفتيها اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شيء ومن كفّيها الصلبتين اللتين ظلتا رغم كل شيء تنتظران السلاح عشرين سنة.

وبكلامه يشير إلى أن الرواية هي نتاج حوار حقيقيّ بينه وبين أم سعد الممتلئة رؤية للواقع والمستقبل وهي لم تكن شريكة في الرواية فقط بل حاضرة في باقي أعماله لما تمثله من بطولة وصبر وأيضاً بسبب انتمائها بشكل فطريّ إلى ثقافة المقاومة، وفي خضم ألم اللجوء ووحل المخيم كانت تطلق مقولاتها مثل (في المخيم الحزين أصبحنا نلد أولادنا لتأخذهم فلسطين أو يأخذونا إليها). وهذه المقولة أكثر وضوحاً وأقل شاعريّة مما قاله محمود درويش: كان اغتراب البحر بين رصاصتين مخيماً ينجب زعتراً ومقاتلين. ومفرداتها ومقولاتها منثورة في أدب غسان كنفاني الذي تأثر بها إلى درجة حضوره أسبوعياً إلى منزلها مع زوجته وأولاده ليتجوّل في أزقة المخيم ويجلس مع الأهالي ويدور الحديث دائماً عن البلاد وكان يدوّن على دفتره ملاحظاته، وعند وقت الغذاء يسألها: شو طابخين اليوم إنشا الله كوسا محشي؟ فتردّ أم سعد: أكيد لأنك بتحبّها ومن خير الله عاملة كمان طبخة ثانية وبعد الغذاء يعود غسان للاستماع إلى أحاديثها عن المعاناة. وكانت تستخدم من دون أن تدري لغة شعريّة مكثفة وذات دلالات عميقة عن الحالة الثورية الصاعدة في تلك الفترة، وعن شعب كل ما يريده هو الحياة وكل ما يُراد له هو القهر والموت. ليبقى السقف واطياً في كل التفاصيل المتعلقة بالعودة والثورة والمخيم وصولاً لأم سعد ومقولاتها العالية.

 

*كاتب وإعلاميّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى