تطوير الاقتصاد اللبناني «الهش» من خلال ثلاثة قطاعات
} د. أحمد الزين
لطالما تفاخرنا كلبنانيين بوطننا واصفين إياه بـ «سويسرا الشّرق»، فهذا الوطن على صغر مساحته بين بلدان الشرق الأوسط كان الأكثر تحضّراً وجمالا، والأهمّ بينها لكونه استطاع، بسبب موقعه الجغرافي المتميّز، وتنوّعه الطّائفي، وانفتاحه، أن يشكّل نقطة وصل بين الشرق والغرب، لقد كان بحقّ: «بلد الرسالة» حسبما وصفه البابا القديس يوحنا بولس الثاني.
ولم يكن مردّ هذا التشبّه بسويسرا تقارب طبيعة البلدين فقط، بل تعداه إلى تطوّر قطاعهما السياحي والفندقي وتميّزهما.. وقد امتاز لبنان بحسن ضيافة تفرّد بها عن محيطه العربي من خلال خدمات سياحية متنوّعة وشعب ممهور بحسن إكرامه للضيف. ومن الأمور المتشابهة بين الدولتين تشابه القطاع المصرفي اللبناني بالسويسري من خلال خاصية السرية المصرفية التي ساهمت بتمييز القطاع المصرفي اللبنانية بين الدول العربية… كما ساهمت التجارة المزدهرة بين لبنان ومحيطه القريب الشرق أوسطي من جهة والعالم الغربي من جهة ثانية في تطوير هذا القطاع الذي شكّل أهميّة كبرى بالنسبة للبنان.. وكذلك كان موقعه الجغرافي المهمّ الذي جعل منه نافذة الشّرق على الغرب والعكس صحيح واعتماده الحريّة الاقتصاديّة نهجاً من مسبّبات تطوّر القطاع المصرفي في هذا البلد الصّغير ذي الموارد الضّئيلة حينذاك..
استناداً إلى ما سبق كان أن شهدت فترة الستينات وبداية السبعينات من القرن المنصرم ازدهاراً كبيراً في القطاع المصرفي اللبناني، وقد اعتبرت هذه الفترة عصره الذّهبي إذ عاش طفرة نمو غير مسبوقة حتّى أضحى لبنان المركز المالي للشرق الأوسط. هذا الازدهار الاقتصادي أنتج عملة وطنية متماسكة أمام الدولار الأميركي، فلم تتعدّ قيمته أمامها الأربع ليرات.
وبموازاة هذا القطاع المصرفي المتماسك، شكّل لبنان طريقاً لأضخم خط أنابيب للنفط في العالم حينذاك حسب «رويترز» وكان هذا الخطّ يمتدّ من جنوب شرق مدينة حفر الباطن السعودية حتى مدينة صيدا في جنوب لبنان.
على أنّ هذا العمران لم يدم طويلاً للأسف، إذ شهدت سنة 1975 بداية الحرب الأهلية في لبنان والتي لم تنته إلا في العام 1990 من خلال مؤتمر الطائف الذي حدّد أطر الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان… ولعلّه من المفيد الذكر، في هذه العجالة، أنّه حتى في أسوأ مراحل الحرب الأهلية والاجتياح «الإسرائيلي» الغاشم على لبنان سنة 1982 لم يشهد الاقتصاد اللبناني مراحل انهيار. وحسب العديد من المراقبين فإنّ من أسباب اندلاع الحرب الأهلية هو استغلال القوى الأجنبية وبعض القوى المحلية التركيبة الطائفية المتنوعة لكن المعقدة من أجل تحقيق مصالح سياسية واقتصادية. من يراجع تاريخ لبنان يدرك أنّ هذا البلد «الصغير» لم يستطع منذ إنشائه، أن يستقلّ سياسياً واقتصادياً من الناحية العملية وكانت التدخلات الإقليمية والدولية هي من يقرّر مصيره على الدّوام.
بعد انتهاء الحرب الأهلية بدأت عملية إعادة إعمار لبنان، فأمل اللبناني أن تبدأ مرحلة جديدة من الازدهار الاقتصادي كما في السيتينيات والسبعينيات.. وكانت فترة التسعينيات توحي بذلك لكن التخطيط الاقتصادي الاستراتيجي لم يكن في المستوى المطلوب. فلبنان ذو الإمكانات البشرية والطبيعية والجغرافية لم ينجح بجعل اقتصاده إنتاجياً بل ظلّ يعتمد على الاقتصاد الريعي وكانت الهندسات المالية والمؤتمرات الدولية تزيد من الديون على لبنان وتغرقه في متاهات لم تظهر آثارها إلا سنة 2019 مع بدء المظاهرات الشعبية في تشرين الأوّل 2019 والتي استغلتها البنوك لوقف السيولة والدفع للمودعين… هذه البنوك التي راكمت المليارات من الدولارات من جراء الهندسات المالية لمصرف لبنان أظهرت ضعفاً إدارياً مصحوباً بجشع كبير وزادت بردود أفعالها الغير مسؤولة من حدة الأزمة الاقتصادية طبعاً بالإضافة إلى الفساد المستشري لدى معظم الطبقة السياسية.
ولكن بعيداً عمّن هو المسؤول عن انهيار الاقتصاد اللبناني، أصبح السؤال الملح الآن، هل هنالك مخرج من هذا الوضع المأزوم؟
مما لا شكّ فيه أنّ الحلول ممكنة وعديدة خاصة أنّ المجتمعَيْن الدولي والعربي أبديا رغبتهما في مساعدة لبنان للنهوض من أزمته… والحقيقة أنّ الاقتصاد اللبناني يحتاج إلى ثلاثة أعمدة للنهوض هي تطوير القطاع السياحي أوّلاً، ومن ثم تشجيع الاقتصاد الإنتاجي ثانياً وإعادة الثقة بالقطاع المصرفي من خلال إعادة هيكلة المصارف ثالثاً.
بداية، تعتبر السياحة من الركائز الاقتصادية الأساسية في العديد من الدول من حيث كونها مصدراً مهماً من مصادر الدخل الوطني. هذا القطاع الذي يُعتبر من القطاعات الأكثر ربحية على مستوى العالم، فدول مثل الولايات المتحدة وأسبانيا وإيطاليا واليونان والنمسا وسويسرا وفرنسا وإنكلترا وتركيا تعتمد عليه اعتماداً كبيراً خاصّة أنّ الدّخل الناتج عن هذا القطاع يعزّز ميزان المدفوعات ويوفّر فرص عمل عديدة بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذان العاملان يعززان من صلابة الاقتصاد. ولعلّ أوضح مثال على ما نقول هو «أثينا» التي استفادت من احتضانها للاكروبليس الذي تشير التقديرات إلى أنّه يدرّ ما يزيد عن ثلاثة مليارات دولار للدولة اليونانية، في حين أنّنا في لبنان نملك العديد من المعالم الأثرية التي تفوق الأكروبليس قيمة مثل بعلبك، وقلعة الشقيف، وآثار صور وآثار بيروت. مما لا شك فيه أنّ القطاع السياحي يُعتبر مصدراً مهماً من مصادر اكتساب العملات الأجنبية وهذا عامل سيكون مفصلياً في تطور الاقتصاد اللبناني. لا نبالغ إذا قلنا إنّ التنمية الاقتصادية التي يرغب لبنان بتحقيقها لا يمكن أن تحصل من دون مشاركة القطاع السياحي.
أما العامل الثاني في تطوير الاقتصاد اللبناني فهو تطوير القطاع الإنتاجي بمعنى الاقتصاد الذي يتكوّن من القطاعات المنتجة أيّ الصناعة والزراعة ولا يعتمد على المصادر الطبيعية كالنفط على سبيل المثال.. وتعتبر الزراعة قطاعاً أولياً بينما الصناعة قطاعاً ثانوياً. ومثلما يؤمّن القطاع السياحي فرص عمل فإنّ القطاع الانتاجي لديه القدرة على خلق فرص عمل كبيرة. ولتشجيع الاقتصاد الإنتاجي، من المستحسن في السنوات الثلاث الأولى تخفيض الضرائب الحكومية لتشجيع المستثمرين.
أما العامل الثالث الذي هو حجر الأساس للاقتصاد اللبناني فهو القطاع المصرفي الذي شهد انحداراً ليس له مثيل منذ 17 تشرين الاول 2019، وطبعاً الثورة اللبنانية ليست هي السبب بل الجشع الكبير للعديد من أصحاب المصارف.
قطعاً لا يمكن النهوض من الانهيار الاقتصادي من دون إعادة الثقة بالقطاع المصرفي من خلال إعادة الهيكلة المصرفية. الهيكلة المصرفية قد تكون من خلال الاندماج أو الاستحواذ، أو التصفية، أو تعيين مدراء جدد، أو حتى إعلان إفلاس.. وقد ظهر إلى الإعلام مؤخراً أنّ هنالك جهوداً مشتركة بين لجنة إعادة هيكلة المصارف ومصرف لبنان، في سبيل تقييم حالة كلّ مصرف على حدة وتحديد حجم أمواله الخاصة ومدى قدرته على الاستمرار، على أن تُحال الملفات إلى المجلس المركزي للبتّ في ما إذا كان من ضرورة لإحالتها إلى الهيئة المصرفية العليا، وبالتالي إلى دمجها أو تصفيتها أو تعيين مدير مؤقت لها.
ختاماً، لبنان لا يمكن أن يسقط لأنه حالة فريدة في الدول العربية بشخص رئيسه المسيحي… كما يمكن لموقعه الاستراتيجي أن يكون الناهضة الاقتصادية لهذا البلد، ويجب أن يستفيد من إعادة إعمار سورية فهو المنفذ الأكثر ملاءمة في هذه العملية.