أولى

مصر وحالة اللامعقول… أمن قوميّ أم أمن الرئيس؟

 سعادة مصطفى أرشيد _

أثار حادث جنوح الباخرة «إيفر غيفن» ( ever given)  منذ أيام وسدّها مجرى الملاحة في قناة السويس، تسونامي من الأخبار والتعليقات والتحليلات، اعتمد كثير منها على نظرية المؤامرة، التي وإنْ كانت غالباً على خطأ، إلا أنها قد تصيب أحياناً، ومما لا شك فيه، أنّ تأثيرات هذا الحدث ولا بد، استراتيجية بامتياز، وسوف تكون لها تداعيات مهمة في الزمن القريب، انه ليس حدثاً عابراً.

تتعطل الموانئ السورية، اللاذقية، بانياس وطرطوس، يتمّ تدمير ميناء بيروت بفعل فاعل، يتوقف ميناءا عدن والحديدة عن العمل بسبب الحرب والحصار، وأخيراً تجنح سفينة «إيفر غيفن» التي تحمل بضائع يقلّ وزنها قليلاً عن ربع مليار طن بسبب الرياح، والنتيجة أن تغلق قناة السويس أمام حركة الملاحة، فيما تعمل موانئ الخليج بنشاط، مثلها مثل موانئ حيفا وأسدود، ويتداول الجميع الحديث عن قناة بديلة، تصل بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، من عسقلان حتى أيله (ايلات)، وعلى شواطئها مدن صناعيّة وتجمّعات عمالية وفنادق ومراكز ترفيه.

فكرة قناة السويس في البداية، ارتبطت بالغرب وتوسّعه وحركة تجارته العالميّة وتنافسه الاستعماريّ، حفر المصريون القناة بجهدهم وعرقهم في منتصف القرن التاسع عشر، وفقدوا مئات ألوف الأرواح أثناء عملية الحفر، وذلك باستعمال الفأس والقفة، وحققوا خلال عشر سنوات، معجزة هندسيّة تفوق في روعتها وفوائدها وتأثيرها أهرامات الجيزة، لكن ورثتهم لم يحافظوا عليها، وحتى عملية تطويرها التي انتهت عام 2015 لم تكن ذات بال وأهميّة، وهنا يتضح أنّ المسألة ليست مسألة سفينة جانحة بحادث عرضي، أو رياح عاتية، وإنما فشل للنظام.

 في عام 1888 وقعت اتفاقية القسطنطينية، لإدارة قناة السويس والتي حدّدت حقوق السفن العابرة للقناة، وكذلك الحقوق والواجبات المترتبة على مصر، ومع تقدّم الزمان، تطوّر القانون الدولي المتعلق بالمضايق والممرات وأضاف على اتفاقية القسطنطينية التي لا تزال معمولاً ومعترفاً بها، بنوداً عديدة تحكم وتنظم عمل القناة، وهي تشمل حرية الملاحة والمرور السريع البريء والآمن للجميع، ومن دون تمييز تجاه العلم الذي ترفعه السفينة الذي يمثل الدولة التي سجلت السفينة بها، ويحظر كلّ من الاتفاقية المذكورة والقانون الدولي إغلاقها، وفي حين تملك مصر حقوقاً في القناة باعتبارها جهداً مصرياً في أرض مصرية، إلا أنها في الوقت عينه ترتب عليها مسؤوليات، وذلك بأن تقوم بما يلزم من أجل سلامة المرور، وصيانة الممر، وتأمين وسائل تيسير الملاحة، وضمان سلامة السفن، وحيازة ما يلزم من آليات الطوارئ في حال تعطلت القناة. فالممرات المائيّة يحظر إغلاقها لما في ذلك من تأثير على السلم العالمي، وأمام خطورة هذا الحدث الذي أثبت أنّ الدولة الفاشلة غير قادرة على إدارة هذا الممر الحيوي، الأمر الذي قد يضع إمكانيّة وضع إدارة القناة تحت رعاية دوليّة أمراً ممكناً.

الفشل عند هذا النظام، لم يبدأ عند حادث السفينة، فالنظام أصلاً لم يستطع المحافظة لا على مكانته العربيّة والأفريقية والإسلامية فحسب، ولا على علاقاته بجواره غرباً في ليبيا التي عادت وستعود عليه بالكوارث، مقابل خدمته لأولياء النعمة ومصدر بقائه في الحكم، أو جنوباً في السودان، الذي تقسّم وأخذ ينحو بشطريه الجنوبي والشمالي بعيداً عن مصر وعن المحيط العربي، وفشل النظام في التعاطي مع سدّ النهضة، الذي أخذ يمتلئ بالماء وأصبح أمراً واقعاً، فيما رجال النظام وقططه السمان يموّلون السدّ المعادي ويقرضون الحكومة الإثيوبيّة، بشرائهم سندات تمويل السدّ، لإماتتهم وإماتة المصريين عطشاً، مقابل فوائد ربوية، فيما حلفاء النظام السعوديين والإماراتيين، الذين يحارب نظام عبد الفتاح السيسي من أجلهم، نراهم يقفون إلى جانب إثيوبيا.

 لم يرَ نظام العسكر في مصر، من مخاطر على بلده من الحرب الأهلية وليبيا، ولا في جنوب السودان، وما يحضّر له من سدود ومشاريع مائية، بخبرة وشركات (إسرائيلية) وأموال خليجيّة تقضي على إمدادات المياه من بحيرة فكتوريا والنيل الأبيض، ولا أمام خطر العطش الذي سيصيب مصر بعد اكتمال المشاريع على جميع روافد النيل، ويتنازل عن جزر مهمة لأمنه القوميّ في مضائق البحر الأحمرتيران وصنافيروالتي كانت السبب المباشر لحرب عام 1967، والتي ستكون متكآت ملاحيّة لمشروع القناة البديلة.

إنها هزيمة لنظام العسكر، لصورة الدولة الشرقيّة في أذهان العالم، أنهم مثال للهزيمة في الحرب، والفشل في الإدارة، والاستبداد بالحكم، وعلى سبيل المثال البسيط، نرى وزير النقل المصري وهو جنرال متقاعد لا يرى في حادث السفينة مسؤوليّة إلا مسؤولية الرياح، التي استطاعت إزاحة سفينة متطوّرة يصل وزنها مع حمولتها إلى ربع مليار طن، في حين يتمّ تداول روايات سخيفة حول سبب الحادث والمسؤولية عنه.

هذا انكشاف لعورات نظام متهافت، فشل في الحفاظ على البلد وعلى أمنها القوميّ، يخوض حروباً بالوكالة في ليبيا، وأخرى في جنوب جزيرة العرب، يتحالف مع «إسرائيل» واليونان في خطوط الغاز، ويفرّط بحقوقه المائيّة التي هي سرّ بقاء مصر المعروفة في التاريخ باسم هبة النيل، عاجز عن التعامل مع الأزمات الاقتصادية الخانقة والمتلاحقة وغير قادر على حلها، البطالة تتفاقم وتزداد بمعدلات مزعجة وترافقها انهيارات اجتماعيّة، فساد مستشرٍ في كافة قطاعات الإدارة القاصرة، أبراج سكنية تنهار فوق أجساد ساكنيها، فيما لا يرى من مهدّدات للأمن القومي إلا في المعارضة الداخليّة، وزجّ 60 ألف من مواطنيه في السجون، بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين، فيما بعضهم من الأقباط

إنه نظام العسكر، ومصر التي نامت نواطير أمنها القومي ومصالحها العليا، فيما عاثت بها الثعالب ضراً وفساداً، لكم تحتاج إلى حاكم بعقلية السلطان العثماني محمود الثاني، الذي أنهى سيطرة العسكر الانكشاريّ على الدولة، بعد أن أصبحوا عبئاً ثقيلاً عليها، ومصدراً من مصادر ضعفها وهوانها.

اليوم في أمّ الدنيا كما يحب أهل مصر تسميتها، نرى في نظام العسكر، انّ الحمار قد أكل الأمن القوميّ وأبقى على أمن الحاكم وضرورات بقائه.

*سياسي فلسطيني مقيم في جنينفلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى