مقالات وآراء

هل تمثل استراتيجيّة القوة الناعمة الأميركيّة حبل خلاص لإعادة الاعتبار للدور الأميركيّ على المستوى الدولي؟

 نزار فاضل عثمان  

على الرغم من تمظهره بشكل الكاوبوي الأرعن، أو الطاووس المختال، بما قد يمثل هذا الوصف من زخم يبلور بطريقة أو بأخرى، المخزون التاريخي والثقافي والاجتماعي للذاكرة الجمعيّة لدى العرق الأبيض في الولايات المتحدة خاصة. إلا أنه كان من الواضح لدى كثيرين من صناع السياسة الأميركيين، خروج ترامب بسياساته الداخليّة والخارجيّة عن إطار المألوف في أساليب تعامل مَن سبقه الى سدة الحكم في البيت الأبيض، الأمر الذي أدّى بطريقة أو بأخرى الى توسعة شقة الانقسام في الداخل الأميركي – ولا نجانب الصواب كثيراً لو قلنا إن هذا الانقسام يشكل واحداً من انقسامات عديدة أخرى. كما لعله من المفيد الإلماح إلى أن ترامب قد لعب على تناقضات كثيرة في المجتمع الاميركي أدت إلى زيادة في شعبيته، ورسمت له بطريقته الهوجاء منبراً جعلت الآخر ينظر اليه إما ببغض وكراهية، أو وفقاً لمعايير أخرى كان لها وقع في نفوسهم لمخاطبته الغرائز، وشحن النفوس بالترهات، الأمر الذي لاقى صداه عند ملايين الأميركيين. 

لنأخذ بادئ ذي بدء إدارة أوباما في ولايته الأولى، حيث كانت الأصوات تتصاعد على إدارة بوش من الداخل الأميركي وخارجه، لتظهر الولايات المتحدّة وكأنها آلة حرب متنقلة، تدفع أثماناً غالية من جنودها، وإمكانياتها وقدراتها بل وسمعتها، من هنا عندما تسلم باراك أوباما الرئاسة في البيت الأبيض، عمل على انتهاج استراتيجيا تحدّ من الخطر نسبياً الذي قد يصيب الجنود الأميركيين المنتشرين خارج الولايات المتحدة من جهة، وسعى لإعادة إعمار وإصلاح مفهوم القوة الناعمة حول العالم، عبر قيادة المجتمعات والشعوب للمناداة بقيم الديمقراطية والتحرر والليبرالية؛ بالمختصر تفعيل دور الجاذبية الأميركية للتغيير على مستوى العالم. أما بالنسبة لما تبلور حينها من مفاهيم تؤكد العداء الأميركي للإسلام والمسلمين، كان لأوباما زيارتين لكل من مصر وتركيا، وأعلن فيهما بما معناه أن حرب الولايات المتحدة ليست مع المسلمين، لكنها حرب بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف، تبع هذا حالة من الفوضى العارمة التي عصفت بالكثير من الدول العربية، بما قد روّج له من قدرة تفعيل لما سُمّي بـ “الربيع العربي”، وكان الفاعل المؤثر فيها قبل أي شيء آخر ما اصطلح على تسميته بالحرب الناعمة، هذا من دون الدخول بالأسباب المختلفة التي أثرت بنشوب تلك الثورات، وكيف بدأت وعلى ما ارتكزت وكيف انتهى معظمها… وحديث ما سُمّي بثورات “الربيع العربي” يطول. 

وهنا، ومن خلال القراءة المتأنية التي قد تسمح لها هذه السطور، بدا ترامب وكأنه ينتهج نهجاً مخالفاً لسلفه أوباما في الكثير من الأمور والسياسات، فلم يعد يهمه التأثير والجاذبية التي توفرها القوة الناعمة الأميركيّة، وفي الآن عينه لم يخرج كثيراً عن خط السير الذي يغضب الدولة العميقة في الولايات المتحدة، فرأيناه على سبيل المثال لا الحصر يعمل على إرضاء المجمع الصناعيّ العسكريّ في أميركا من خلال صفقات السلاح التي غنمها من دول الخليج العربية، لا سيما السعودية بقضية مئات مليارات الدولارات، التي دفعها محمد بن سلمان لقاء شراء الأسلحة، وغيرها. ومن ثم فمعايير عديدة، ومسببات عدة قد لا يمكن الإغماض عنها، منها على سبيل المثال لا الحصر دور ثورة التقانة، وتوسع شبكات التواصل الاجتماعي، التي كان من آثارها بطريقة أو بأخرى اضمحلال نسبي لمفاهيم عدة منها الدولة، والانتماء، والمواطنيّة وغيرها، فالمرء الذي يتواصل على شبكات الإنترنت من خلال منصات عدة، ومع أطياف وشرائح مختلفة من كافة أقطار المعمورة، قد يتجاوز بلا وعيه كثير من الأطر والملزمات التي تتعارض بطريقة أو بأخرى مع معايير الانتماء للوطن، أو مراعاة من يتحتم عليه من تلبس واجب بقضاياه وحدوده ومصالحه. وهذا كان يمثل بطريقة أو بأخرى سيفاً ذا حدين، فقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً بارزاً جداً في تعبئة الرأي العام في الدول المستهدفة من خلال “ثورات الربيع العربي”، إلا أنها من جهة أخرى انعكست على كثير من الدول وعلى المدى البعيد بتجفيف نسبي لمفهوم الانتماء للوطن، وعلى رأسها الولايات المتحدة نفسها، بما رأيناه من حراك جماهيريّ في الكثير من الولايات ضدّ هيمنة الرجل الأبيض. بهذا كان سعي ترامب لإعادة إحياء الشوفينية البيضاء، والتي وجدت صداها بشكل واسع لدى شريحة كبيرة من الجمهور الأميركيّ، وأدت وما تزال تؤدي لمزيد من الانقسامات والانشقاقات والتفسخ في المجتمع الأميركي.

والواقع أن الحديث عن ترامب وسياساته الداخلية والخارجية يطول، إنْ في تجييش الرأي العام ضد خصومه، او استهزائه بحلفائه، الى حَلْب ثروات تابعيه من عرب التطبيع إلى غير ذلك، وإن أضفنا آثار جائحة كورونا على الولايات المتحدة خاصة، لظهر أمامنا بطريقة أو بأخرى، انكفاء وكمون وأفول دور الولايات المتحدة، وتراخي قبضتها عن كثير من الدوائر والملفات والقضايا إن داخل الولايات المتحدة أو خارجها، وهو الأمر الذي أوحى به وليام بيرنز بما معناه أن الولايات المتحدة لن تستطيع العودة الى ما كانت عليه من الهيمنة على الساحة الدولية في المدى المنظور.

بهذا وأخذاً بالكثير من المعطيات المتوافرة حول الاستراتيجية التي سيتعامل بها جو بايدن مع القضايا والملفات الداخلية والخارجية، والتي يشكل كثير منها تحدياً واسعاً، هل سيتخذ استراتيجية القوة الناعمة، التي اتبعها أوباما، عبر تفجير الدول المستهدفة من الداخل، وهذا ما عبر عنه كثير من المسؤولين وعلى رأسهم وزيرة الجيوش الفرنسية من تحذيرات تنذر بعودة إحياء داعش في العراق وسورية، وغيرها؟ وما هو الدور المنوط بـ”إسرائيل”، في ظل تراخي قبضة الولايات المتحدة بفعل التراجع الملموس في سياساتها الداخلية والخارجية؟ وما هو دور عرب التطبيع في هذا الأمر؟ وهل ستكون دول التطبيع العربية بمنأى عن السم الذي زرعته في خاصرة الأمتين العربية والاسلامية عبر التطبيع والتحالف مع الكيان الصهيوني؟ أم ستكون عرضة لموجة من “ثورات القوة الناعمة” بدورها، حيث إن أول من أصابته حمّى الثورات الناعمة في عهد أوباما كانوا حلفاء أميركا المقربين أنفسهم؟ هل سيشهد المسرح الدولي استراتيجية استيعاب ومواجهة من قبل الولايات المتحدة للصين وروسيا وغيرهما، وسياسات تغيير ممنهجة قائمة على الجاذبية، ودعم الحراكات الشعبية المدعومة أساساً من المنظمات غير الحكومية، والجمعيات الأهلية، في الدول الأخرى المستهدفة في الإقليم والعالم. أم سيبلور ساكن البيت الأبيض وإدارته، نمطاً يختلف عن نمط أوباما من حيثية مزج القوة الناعمة وتأثيراتها، مع شيء من القوة الصلبة للتأسيس لاستراتيجية تعيد للولايات المتحدة بعضاً من هيمنتها الآفلة؟ وهل بعد الذي شهدته أميركا وتشهده من تحديات بقي لها ما تستند عليه جدياً في توظيف قوتها الناعمة بالفعل، أم ما الذي يفعله العطار بمن أفسده الدهر؟

تبقى هذه تساؤلات بعهدة المقبل من الأيام والأسابيع. 

* كاتب وباحث سوريّ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى