الفلسطينيّ والحدث الأردنيّ
سعادة مصطفى أرشيد _
انقضت الأيام الماضية ثقيلة وقلقة، فيما وسائل الإعلام وروادها ومتابعوها في شغل، فما حدث في الأردن كان حدثاً من خارج الصندوق، والأردن هو البلد الذي عاش بقدر مقبول من الاستقرار قياساً مع المحيط المجاور، ووسط محيط غير مستقرّ، وذلك برغم صعوبات الاقتصاد، وجائحة كورونا، وما رافقها من متاعب صحية واقتصادية، وكذلك من ضغوط خريف الشام الطويل، ومواقف عمّان المتأرجحة تجاه ما يجري في جواره القريب .
اعتاد المواطن الأردني الشكوى، وأصبح ذلك سلوكاً ومنهجاً، وإنْ زادت التعقيدات المذكورة آنفاً من جدّيتها، ولكن الانتقادات والشكوى الدائمة سرعان ما كانت تمتصّها جدران دواوين الكلام والثرثرة السياسية، إذ ينشغلون بقصة إلى أن تأتيهم الأيام بقصة أو فضيحة جديدة، يتلهّون بها.
يجري الحدث الأردني في إقليم يعيش مخاضاً عسيراً وطويلاً، ولم يتضح بعد شكل مولوده، وفي حين تتضارب الروايات حول ما جرى، وما أشيع عن اعتقالات أكد البيان الحكومي بعضاً منها، وتمّ توزيع التسجيلات الصوتية للأمير حمزة، وبها ما يعبّر عن عمق الأزمة، إلا أنّ الوصول إلى معرفة ما جرى يحتاج إلى وقت ليتضح، هذا وإن توقفت الأزمة حالياً عند هذا الحدّ.
الأردن مستهدَف بقضّه وقضيضه بلداً وملكاً وأميراً ومواطناً على حدّ سواء، وأخطر ما يستهدف الأردن هو جواره الغربي، فلا زالت عقيدة اليمين (الإسرائيلي) لا ترى في الأردن وطناً، وإنما حاجزاً لامتصاص الضربات ووظيفة لها أشكالها الثابتة والمتغيّرة، ويرى هؤلاء أنّ الأردن جزء من فلسطين الانتدابية بموجب قرار الانتداب الذي أقرّته عصبة الأمم عام 1922، ثم أنها المنطقة – البلد ذاته المشمول بوعد بلفور 1917، والتي تصل حدودها الشرقية للأنبار العراقية أو نقطة H4) الحالية)، واستطراداً لرؤية اليمين (الإسرائيلي)، فهم يرون أنّ العرش الهاشميّ حالة مؤقتة، وربما عرش غاصب لحكم البلد، وللأرض التي يراها هؤلاء حصة الفلسطيني سواء كان من مشرق النهر أم من مغربه، وعليها يجب أن تقوم الدولة الفلسطينية بديلاً للمملكة الأردنية الهاشمية، ولطالما عبّروا عن عقيدتهم هذه نظرياً وعملياً، قولاً وفعلاً، هذا في حين كانت علاقات الدولة والعرش متواصلة ومنسجمة مع حزب العمل (الإسرائيلي)، فقد افترض العقل السياسي الأردني في زمن سابق وشاركه في ذلك العقل السياسي الفلسطيني، أنّ هذا الحزب هو الذي صنع الدولة (الإسرائيلية)، ونظم مؤسساتها، ورسم تحالفاتها الدولية، وهو من خاض حروبها وحقق لها الانتصارات (الاحتلالات)، وأنّ هذا الحزب قادر على البقاء والصمود والفاعلية إلى ما شاء الله، سواء من موقعه في الحكم أو من ثقله في المعارضة، الأمر الذي ثبت بالدليل الملموس عدم صحته.
بن يامين نتنياهو بدوره، يتجاوز العقيدة اليمينية، ليضيف إليها بغضه الشخصي للأردن بشكله الحالي دولة وعرشاً، ولا تزال عقدة الثأر مهمة في علاقته بالأردن محكومة بذلك من أيام تشكيل أولى حكوماته، ومحاولة اغتيال رئيس مكتب حماس السياسي خالد مشعل في عمّان، التي أفشلتها يقظة وشجاعة حارسه الشخصي، ولكن الأردن وملكه الراحل، استطاع بحنكته استثمار الحدث، لإذلال نتنياهو وإنقاذ خالد مشعل وإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين من سجنه المؤبد، وذاكرة نتنياهو لا تزال تذكر بحقد، الأمر الذي أصدر الملك الراحل إلى ابنه الأمير عبد الله (الملك عبد الله الآن) بصفته ضابطاً أو قائداً للقوات الخاصة بمحاصرة مبنى السفارة (الإسرائيلية) في عمّان واقتحامها إن تتطلّب الأمر، ثم كان من أواخر تداعيات هذه العداوة، عرقلته دخول ولي العهد الأردني لقضاء ليلة الإسراء والمعراج في رحاب المسجد الأقصى، الأمر الذي ردّ عليه الأردن من فوره، بعرقلة رحلة نتنياهو لدولة الإمارات، فقد شعر الأردن بفائض قوة، إذ كان قد أتمّ الإعداد لاتفاقيته الدفاعيّة مع الأميركان، والتي تمثل إضافة أمنية واستراتيجية نوعية لاتفاقات سابقة.
المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية، تابع بدوره الحدث الأردني بقلق، وأصبح شغله الشاغل، غير مكترث بحمى الانتخابات المزمع إجراؤها في أيار المقبل، ومن ورد اسمه في قوائم المرشحين وحظوظ كلّ قائمة، فقد تعامل المواطن معها باعتبارها حدثاً ثانوياً بالقياس لما يحدث في عمّان .
للأمر عند أهل الضفة بعدان، عاطفي ومادي، في البعد العاطفي يرى المواطن بعد تجربته مع الاحتلال لسبع وعشرين سنة ومثلها مع السلطة الفلسطينية، إذ يتذكر بعاطفة الأيام التي كانت بها الضفة الغربية جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية باعتبارها كانت أياماً طيبة، ويجري مقارنات مدعومة بالتجربة، نتيجتها لصالح الأردن مقارنة مع الأيام التي تلتها ولا تزال، وبرغم ما قد يسجل من ملاحظات وانتقادات لتلك الحقبة، إلا انه كان راضياً بالعقد الاجتماعيّ المنعقد الحاكم للعلاقة بينه وبين الدولة، والذي وإنْ ضيّق عليه فرص العمل في دوائر الدولة وأجهزتها الأمنية، إلا أنه أطلق من إمكانيات عمله في التجارة والصناعة ومجالات الاستثمار الاقتصادي، وأصبح ينظر إلى تجربة الصراع الدامي في أيلول 1970 بين الجيش الأردني ومنظمات العمل الفدائي الفلسطيني، بنظرة مختلفة وأثر رجعيّ، عما كان يراه في حينه، خاصة بعد تجربته مع السلطة الفلسطينية وما وصلت إليه الحال من تهافت وهوان بالسياسة، ومن فشل ذريع في إدارة شؤون الحياة اليوميّة.
أما في الشأن المادي، يقارن مواطن الضفة الغربية الفلسطيني حاله بحال نظيره مواطن قطاع غزة، كما يقارن بين التعاطي الأردني معه وبين التعاطي المصري مع الغزيين، والنتيجة بالطبع تأتي لصالح الأردن، فالأردن رئة مريحة يتنسّم منها الهواء ويمضي عبر معابرها ومطاراتها، حاملاً جواز سفرها، عبر العالم، يستثمر ويتملك بها، يعالج في مدينتها الطبية ومركز الحسين للسرطان، حيث يجد مهارة وتعاملاً أفضل مما يجده في الضفة الغربية، وأقلّ تكلفة عما يمكن ان يدفعه للمشافي (الإسرائيلية)، الدينار الأردني عملة نقدية متداولة إلى جانب الشيكل (الإسرائيلي)، وهو عملة الادّخار الأولى التي يطمئنّ إليها، كلّ ذلك جعل من أمن الأردن واستقراره مسألة حيويّة داخل كلّ بيت فلسطيني، بغضّ النظر عن الجالس على العرش، الملك أم شقيقه الأمير، هذا وإنْ كان في تاريخ العائلة الهاشمية ما قد يجد فيه البعض مادة للانتقاد والملاحظة، وفي الأداء السياسي ما قد يكون مسألة خلافية، إلا أنّ ما يتفق عليه أغلبية الناس أنّ ثقافة العرش الأبوية، وميلها للتسامح والتسويات، واستيعاب الخصوم، كما حصل مع انقلابيّي الخمسينيات، علي أبو نوار ونذير رشيد، الذين عادوا بعد الصفح عنهم ليشغلوا مناصب وزارية ومواقع أمنية، وجعلهم يعيشون ما بين مشاعر الخجل والندم وعقدة الذنب .
لا يرى أهل الضفة الغربية خاصة والفلسطينيون عامة، من بديل متاح للعرش إلا ليكود شرق أردني، أكثر جنوحاً للإملاءات الغربية و(الإسرائيلية)، ومن دون تهذيب وثقافة العائلة المالكة، وله بما جرى في جواره المثل الحي، من هنا فإنّ استقرار الأردن وسلامته، يفوقان في ضروراته الصراعات الصغيرة على العرش أو الصراعات الكبيرة التي تستهدف تغييره أو العبث به .
*سياسي فلسطيني مقيم في جنين – فلسطين المحتلة