ماذا ينفع الشعب إذا خسر نفسه وحقه وكرامته ووطنه وربح «وليّ نعمته»؟
المحامي معن الأسعد*
مشهد طوابير الذلّ وسحق أبسط حقوق الإنسان، وتحويل لبنان الى مكبّ للنفايات والاستيلاء على جنى عمر المواطن اللبناني في المصارف وجعله متسوّلاً لا حول له ولا قوة. مؤشرات خطيرة لازدياد ظاهرة تقديس «زعيم» القبيلة والعشيرة، من قبل الفقراء المسحوقين الذين ينزفون الدم ويذرفون الدمع ويتصبّبون العرق، لتأمين فتات قوتهم اليومي، في حين يقابلهم مشهد ترف و»بطر» حيث زعيمهم وعائلته وأزلامه والحاشية يتمتعون بثرواتهم الخياليّة التي راكموها بالفساد والنهب والتحاصص، وبسرقة حقوق الناس كما «يسرق الكحل من العيون».
هذا المشهد المبكي والموجع يخالف جميع قواعد المنطق والعقل والحق، ويتجاوز بمأساويته، بل بكارثيته، ما شهده اللبنانيون على مدى عقود من الحروب والفتن الطائفيّة والمذهبية والجوع والذلّ والحرمان والإهمال، في ظلّ عهود وحكومات وسلطات وطبقات سياسيّة تعاقبت على حكم البلاد والعباد.
المواطن اللبناني يعلم من خلال الأجيال التي عبرت أنّ لبنان رغم ما شهده من معارك وصراعات واستهدافات كان «وطناً» يمكن العيش فيه، مع قليل من الأمل بأنّ المستقبل قد يكون أفضل، أقله بالشكل والمظهر وحال الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والسياحي والمالي، وإنْ كان مقنّعاً. قبل أن تكشف الحرب الأهلية البغيضة عام 1975 هشاشة بنيانه كوطن ودولة ومؤسسات، تهاوت مع انطلاقة شرارة هذه الحرب، المستمرّة حتى الآن بـ «أسلحة» متنوّعة وأقنعة متلوّنة، وشعارات واهية ومشوّهة.
كان لبنان «رائداً» يفوق الكثير من الدول بأشواط، في مجالات علمية وطبية وفنية ورياضية وطاقات بشرية ومؤسسية وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة.
هذا الفائض من «البحبوحة» غير المعمّمة، لا تعني أنه ليس هناك فقراء كثر، كما في كلّ دول العالم، أو لم يكن هناك جوع يفتك ويميت، أو لم يكن هناك ظلم كما في العديد من الأنظمة الجمهورية أو الملكية أو الديمقراطية وغيرها، أو لم يذلّ أحد أمام المستشفيات والأفران ومحطات البنزين. أو لم تسرق أموال الشعب! كلّ هذا كان موجوداً، لكنه لم يكن متغلغلاً في المجتمع والبيوت والمؤسسات، ولم يكن خطره طاغياً وقاتلاً ومدمّراً للوطن والدولة والشعب، ولم تكن الأنظمة والقوانين والدستور مصادرة ومغيّبة ولا دور لها ولا فعالية ولا هيبة ولا احترام، ولم تكن تحكم لبنان طغمة سياسية سلطوية كالطغمة السياسية والمالية الحاكمة حالياً، التي لم يشهد تاريخ لبنان مثيلاً لها.
كان في لبنان قبل اغتصاب هذه الطغمة للسلطة بقوانين انتخابية جائرة وغير وطنية وغير عادلة، مؤسسات فاعلة ومنتجة أسّسها العهد الشهابي بالذات، ولا يزال ما بقي منها صالحاً لبعض الخدمات الموجودة اليوم.
صار المواطن اللبناني يعلم أنّ هناك عصابة لصوص وقحة سياسية وطائفية ومذهبية ميليشياوية. لم يعرف مثيلاً لها، وكاذبة ومنافقة ومزوّرة، أغرته بشعارات ووعود «ما أنزل الله بها من سلطان» لرفع الظلم عنه ووعده بتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعيّة وبتأمين حقوقه وإعادة المنهوب منها والمهرّب.
منذ 37 عاماً وصلت الطبقة السياسية الحالية الى حكم الأرض بالنار والبارود والقتل والخطف والتدمير والتهجير والتشريد، ومنذ 31 عاماً خلع أمراء الحرب «زيّهم» العسكري ولبسوا البدلات الأنيقة و«ربطات العنق» وتسلموا مقدرات البلاد والعباد، واحتلوا الإدارات والمؤسسات والأمن والقضاء والهواء والماء والدين والطائفة والمذهب، وحكموا الحجر والبشر، وأكلوا الأخضر واليابس، تاجروا حتى بالموت والمرض والقهر واليأس وحرقة القلب. وحوّلوا ما تسلّموه من شبه وطن ودولة إلى جهنّم .
دخلوا الى «فردوس» الحكم لا يملكون سوى «حذاء رث بال» وأصبح لديهم قصور و«إمارات» وثروات تفوق الخيال. ثروات تكفي فوائدها في المصارف الأجنبية لإطعام ومساعدة كلّ «جماعتهم» إذا ما أرادوا ذلك.
لكن بخلهم الجاحظي أعمى بصرهم وبصيرتهم، وغلّ أيديهم وحجّر عقولهم والمشاعر، وأفقدهم الرحمة والإنسانية. اللبنانيون شاهدوا وسمعوا عن ثرواتهم وإمبراطورياتهم مع زوجاتهم وأولادهم وأصهرتهم وأزلامهم! بالرغم من ذلك، والمشاهد الشعبية المروعة، فإنّ قسماً منهم لا يزال يصدح بأعلى صوته «بالدم بالروح نفديك يا زعيمنا».
وقد احتار فقهاء السياسة والعلم والطب النفسي في تفسير أسباب هذه الظاهرة اللبنانية المازوشية (جلد الذات) الغريبة العجيبة.
بعد مراجعة التاريخ ودراسة الواقع خرجوا بالنظرية التالية: انّ أيّ مواطن لبناني كان يبلغ من العمر 13 عاماً ولأيّ دين أو طائفة أو مذهب أو منطقة انتمى، ترعرع على الوجوه الحاكمة الكالحة المهترئة ذاتها، وبلغ الخمسين من عمره ولا يزال هؤلاء الطغاة يتسيّدون ليله ونهاره، ويسرقون لقمته من فمه والكحل من عينه. وأنّ هناك أكثر من ثلاثة أجيال ولدت، وربما ماتت، ولا يزال فراعنة العصر يتربّعون على حلمه ويقظته. وأنّ قسماً كبيراً من هؤلاء لا يمكن لهم أن يصدّقوا بأنّ فرعون ومسيلمة ونيرون يمكن أن يسقطوا أو حتى يموتوا.
قسم لا يُستهان به من الطوائف والمذاهب، انتمى لهذه الأحزاب الميليشياوية السلطوية الظالمة الفاسدة، وبنى مجده ومكانته الاجتماعية داخل محيطه وقريته تحت علم وشعار «زعيمه».
هؤلاء سيستمرون بالدفاع بشراسة عن أنفسهم ومصالحهم ومكتسباتهم مهما كانت وضيعة ومتواضعة، وليس فقط عن «زعيمهم».
هم لا يتحمّلون أن تصبح حياتهم ومسيرتهم كذبة،
وشعاراتهم ومبادئهم فارغة خاوية خرافية، فإنْ سقط «زعيمهم» أو أدين بالفساد وباستغلال السلطة فهم الذين سيسقطون وليس هو… بل يبقى لديه خيار الفرار من البلاد وترك «الجمل بما حمل» والتنعّم بثرواته في بلاد المنفى، والمواطن الفقير المريض الجائع الذليل يصدح بأعلى صوته متألماً عالماً يقيناً بأكذوبة عمره، يدافع عن «زعيمه» على حساب ربه ودينه وشرعه خوفاً من خسارة ما بقي له من مكانته الاجتماعيّة!
وقد ثبت بالوجه الشرعي والعلمي أنّ حالة الانفصام النفسي التي تعمّ المجتمع اللبناني لها مبرّراتها وأسبابها الموجبة، وهذا الاكتشاف فعلاً يستحق جائزة «نوبل» في الطب النفسي بامتياز.
يبقى أن نسأل من وحي عيد الفصح وشهر رمضان المبارك… هل يجوز لأي إنسان أن يستبدل دنياه بآخرته؟
هل من المعقول أن يتمّ استبدال الله عز وجلّ بـ «مسؤول»ـ
فعلاً صدق السيد المسيح حينما قال: «ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم وخسر نفسه…».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أمين عام التيار الأسعديّ.