كل 13 نيسان وأنتم بخير!
} زياد كاج*
يتبع اللبنانيون في بلدهم الصغير روزنامتين: واحدة للأعياد والمناسبات الدينية والعامة، واُخرى لتواريخ وأيام سود في معظمها ارتبطت بحروب وسفك دماء وتغييرات عسكرية – سياسية خطّتها طلقات البندقية وقذائف المدافع ودعسات المقاتلين.
يصادف في هذا الشهر الربيعيّ أن تتداخل الروزنامتان وتتضاربان في يوم واحد. يحل شهر رمضان المبارك في 13 نيسان. وهو في الوقت نفسه اليوم المشؤوم في ذاكرة اللبنانيين الذي شهد شرارة اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية على خط الشياح – عين الرمانة بسبب الحادثة المأساوية التي عُرفت بـ «بوسطة عين الرمانة» .
شهر الرحمة يبدأ هذا العام في يوم خلَت منه الرحمة؛ يوم تفلتت عفاريت الحقد المجنون من قمم العقل والحكمة والدين. ففي لبنان طوائف وملل كثيرة، وإيمان قليل. أديان كثيرة على بقعة جغرافية جميلة والتقوى شحيحة كمياه واحات الصحراء. وكذلك المحبة والرحمة وقبول الآخر. عندنا طوائف جميلة بتعدّدها وطائفية بغيضة بجهلها وتعصّبها الأعمى والمصلحي الخدماتي.
رزنامة اللبنانيّين تعجّ بالمناسبات والأعياد الدينية. فالمسلمون عموماً لديهم عيد الفطر والأضحى ويوم المولد النبوي والهجرة النبوية والإسراء والمعراج. يشترك الموحّدون الدروز بعيد الأضحى مع أخوانهم المحمديين. المسلمون الشيعة لديهم مناسبة عزيزة حزينة وهي عاشوراء. عشر ليالٍ من المجالس الحسينية تنتهي بمسيرة اليوم العاشر (ذكر مصرع الإمام الحسين وأهل بيته في كربلاء). وتستمر مراسم الحزن والحداد حتى ذكرى الأربعين. وللمسلمين الشيعة مناسبات سعيدة لا يعرفها الناس: مثل «يوم الغدير» ومناسبات أخرى تحيي مولد الأئمة المعصومين عندهم وعدد من المناسبات الحزينة أيضاً.
وللمسيحيين من غربيين وشرقيين وبروتستانت مناسباتهم وأعيادهم: كرأس السنة الميلادية، وعيد ميلاد السيد المسيح، والفصح، وعيد الذكارى (وليس السكارى)، وعيد الغطاس، والبشارة وغيرها من الأعياد والمناسبات. ولا ننسى المناسبات الخاصة بالأرمن، كذكرى المجازر الأرمنية، وأعياد البروتستانت الإصلاحيّة.
تبقى الأعياد والمناسبات العلمانية وغير «المدعومة طائفياً» التي تقطع كغيمة صيف عابرة. تمر مرور الكرام من دون احتفال وبلا هرج ومرج. فعيد العمال صار مناسبة للتعطيل عن العمل فقط. ربما هو المناسبة الوحيدة التي يستغلها الحزب الشيوعي في لبنان لتنظيم مسيرة منظمة تنتهي بخطاب مدوٍّ من أمينه العام. فيما نقابات العمال صارت مغارات للطوائف والمذاهب. «الله يرحمك يا لينين… ويا ضيعان نداءك للعمال… أكلته الطوائف عندنا».
أما عيد المعلم، فحدث ولا حرج. مساكين المعلمون والمعلمات… أصبحوا شبه عاطلين عن التعليم. وعيد الإستقلال!! وما أدراك ما هو عيد الاستقلال في لبنان. لولا العروض العسكريّة للجيش لكدنا نسيناه ونسينا أن فرنسا كانت تحتل هذا البلد! وهل من لا يزال يتذكّر شهيد الاستقلال سعيد فخر الدين الذي سقط تحت سنديانة في عين عنوب في مواجهة مع مصفحة فرنسيّة؟ ويبقى عيد الأم جامعاً لكل اللبنانيين في 21 آذار. ولا ننسى عيد التحرير في 25 أيار. لكن هل لا يزال اللبنانيون مجمعين على هذا العيد؟
الرزنامة اللبنانية الموازية هي من تراب ودماء وصراخ وبارود ونار وسيارات مفخّخة واغتيالات. يحفظها اللبنانيون من جيل الى آخر علهم يتّعظون؛ وعلى أمل أن يستوعبوا أنهم مجرد لعب صغيرة في لعبة الأقوياء. لعبة الأمم. تلك السنين والتواريخ والأيام تبقى محفورة في الكتب والصحف وذاكرة الكبار. واللائحة طويلة: 1840، 1860، 1958، 1975، 1982، 1990، 2000، 2006. هذا بالنسبة للسنوات. أما الأشهر، فيبدو أن شهري شباط وأيار يكتسبان المكانة الهامة. وتبقى الأيام محفورة بسوادها وضجيجها ودمائها: 13 نيسان (بوسطة عين الرمانة)، 17 أيار (اتفاق الاستسلام بين لبنان و»إسرائيل»)، 6 شباط (الانتفاضة ضد حكم الرئيس أمين الجميل)، 7 أيار (حرب الأشقاء الأشقياء في بيروت والجبل)، 14 شباط (اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري)، 8 آذار و14 آذار (ولادة تياري المعارضة والموالاة) ثم 17 تشرين الثاني الذي شهد ولادة الثورة أو الحراك الشعبي اللبناني المطالب بالتغيير الجذري بسبب فساد عام ومتراكم منذ أيام الطائف… وأخيراً 4 آب اليوم المشؤوم الذي شهد الانفجار المزلزل في مرفأ بيروت والذي لم يختبر مثله اللبنانيون طول حروبهم. ولا تزال آثاره المدمّرة ظاهرة على البنيان وعميقة في النفوس. حتى قيل إن لبنان لن يكون بعد 4 آب كما كان من قبله.
الذاكرة اللبنانيّة حبلى بمشاهد وأخبار الحروب من كافة الأنواع والمستويات منذ 13 نيسان حتى اليوم. فمنذ اغتيال النائب معروف سعد في صيدا وحادثة بوسطة عين الرمانة والسبت الأسود بدأت ذاكرتي الطفوليّة تسجل كل ما أراه وأسمعه من الكبار. حصل ذلك تحديداً يوم كنا برفقة أمي في زيارة لعمتها الحبيبة في فرن الشباك. دخلت صدفة كولد حشري أحد البيوت الأرضيّة المجاورة فوجدت مجموعة شباب يتدرّبون على فك وتركيب قطعة سلاح على طاولة خشبيّة وضعوا عليها حراماً صوفياً. توقفوا، نظروا الي، ثم تابعوا عملهم.
ثم توالت المشاهد والأصوات والأخبار المتواترة: حرب الفنادق، الخطف على الهوية، الكوفية الفلسطينية، المقنع الأسود والمخيف، مجزرة الكرنتينا، مجزرة الدامور، اغتيال كمال جنبلاط وما تبعه من اغتيالات وتصفيات في الجبل وقرب بيتنا في فردان، حروب توحيد البندقية في الشرقية، الاجتياح الإسرائيلي، مجزرة صبرا وشاتيلا، المارينز في بيروت مرة ثانية، اغتيال بشير الجميل، الانقلاب على أمين الجميل وحرب الشرقية والغربية من جديد، حرب الإلغاء، ثم خروج الرئيس ميشال عون من قصر بعبدا بعد قصفه بالطيران. حلول سلام الطائف ببسمة الحريري الأب ومشروع السوليدير وضحكة الهراوي الزحلاويّة. دام السلام –الوصاية، بنظر بعضهم، 15 عاماً. حكم الجار بعد مذابح التجار. تحرر الجنوب ولاحقاً اغتيل الحريري وبدأ التراجع. رويداً دخلنا حروب الشوارع والمذاهب. 7 أيار كانت حرب كُتب لها أن تكون خاسرة… للطرفين. عشنا تجربة حرب 2006 وانكسرت شوكة الجيش الإسرائيلي. كنت سعيداً لأنني عرفت جيداً هذا العدو سنة 1982 وما فعله في لبنان وما تسبب به من حروب في الجبل بين المسيحيين والدروز وهو مَن لعب دوراً أساسياً بل داعماً في وقوع مجزرة صبرا وشاتيلا المروّعة.
مع حلول ذكرى 13 نيسان وبداية شهر رمضان المبارك، لا بد من الاتعاظ من ماضينا الأسود ومن الحال الاقتصادية السيئة بل المأساوية التي يمر بها الناس. شهر رمضان هو شهر الرحمة والمغفرة والتعاطف مع الفقير والجائع وكل صاحب حاجة. رمضان والصيام ليس للموائد العامرة والسهر حتى السحور على أنغام الطرب والناس تقف طوابير كي تشتري الحليب والزيت المدعوم وربطة الخبز. هذه السنة سيكون رمضان قاسياً، بل حقيقياً. فالصوم سواء عند المسيحيين أو المسلمين هو ليس فقط صوم الطعام والشراب بل صوم الأخلاق والمسلك والحب والانفتاح على الآخر… وكم نحن فقراء من هذا المضمون. كم نحن «طقوسيّون» في عباداتنا الخاوية؟ وكم نحن كطوائف بحاجة لإعادة تأهيل روحي من جديد؟ نحن بحاجة لغريغوار حداد يظهر وسط كل طائفة ليفضح ويعرّي حراس هياكل الطوائف المتآمرة على راعيها.
جميل في لبنان أن نخرج من صيام أهل المسيح وندخل في صيام أهل محمد. فالصيام هو صيام وغايته واحدة: تهذيب النفس. فوباء الكورونا لم يميّز بين مسلم ومسيحي. وليس بين سني أو شيعي أو درزي. ولم يميّز بين ماروني وأرثوذكسي. بل القيّمون على اللقاح (أكانوا في السلطة أم خارجها) هم الذين فعلوا بهدف الحفاظ على كراسيهم التي دخلت مرحلة الاهتراء ونخرها سوس الفساد.
سألت سيدة متديّنة بيننا صلة قرابة: «ماذا يعني لك أن يحلّ رمضان في 13 نيسان؟».
أجابت: «وما دخل؟».
خوفي أن الشعوب اللبنانية لم تتعلّم بعد — وهي بالتأكيد لن تفعل — أن الحروب لا تشن من أجل الأديان. بل هي تكون وقودها والناس حطبها. فالمسيح كان براء من الميليشيات التي قتلت وذبحت تحت شعار حماية شعبه. ومحمد براء من كل من قتل وذبح وسرق تحت رايته وبحجته. والإمام علي وأهل بيته براء من كل من ظلم أو قتل أو اعتدى بحجة أنه ظُلم وأهل بيته منذ أكثر من 1400 سنة.
يتم في لبنان خلط غريب عجيب بين الماضي والحاضر! عملية غسيل ضخمة للأدمغة الشابة خاصة لجعلها تفكر بالحاضر والغد بأفكار وعدة الماضي. والله والسماء وكل جنس الملائكة هم براء من كل الطوائف اللبنانيّة التي تكره وتحارب وتسرق وتلعن بعضها البعض سراً وعلانية بحجة الدين ومصلحة الطائفة ونقاء دمها وتاريخها وشرفها واستمرارها.
يقول السيد المسيح: «الأرض وادي الدموع».
ويقول النبي محمد: «الأرض جحيم المؤمن، وجنة الكافر».
ونحن اللبنانيين نريد الأرض والسماء معاً؛ سماء واحدة لثماني عشرة طائفة.
كل 13 نيسان وأنتم بخير.
*كاتب لبنانيّ.