تأمّلات في عوالم الدهشة لدى القاصّة مشلين بطرس في قصتها القصيرة «انفلات الزمن»
} أ. محمد مجيد حسين/ سورية
تراجع الروح
(«أن نعيشَ يعني أنْ نخضعَ لشعوذةِ الممكن». إميل سيورا)
ثمّة مساحات في منظومة الزمن نتنازل عنها من دون دراية منا، وبالرغم من أن اللحظات – كما قال إميل سيوران – هي التي ترفضنا ولا تمنحنا أي فرصة للتماهي معها، وفي خضم شعوذة الممكن قد نصل إلى ما ذهب إليه الفيلسوف الكوري المُعاصر (بيونغ تشول هان)، حيثُ يؤكد مستغرِباً التطابق شبه التام ما بين الحرية والعبودية في النظام الليبرالي وخاصة في ظل السلطة الرقميّة، حيثُ يقول: هل يتّجه العالم نحو عبوديّة رقميّة طوعيّة؟
فهذه الفكرة تُماثل الممكن التقليديّ، والناتج عن أجندات الخطاب السائد، حيث فقدَ العقل البشري معظم قدراته النقدية نتيجة النظام الذكوري والتفاوت الطبقي في معظم بقاع العالم وجاءت الفردانية كخريطة طريق لخلق أجواء من المساواة، لكن النتائج كانت شبه كارثيّة على جوهر كينونتنا، فبات الكائن البشري غير اجتماعي، وهي السمة المحوريّة التي ارتكز عليها الإنسان في جلّ العصور الزمنيّة التي مر بها، هنا ثمّة تحجيم للأسئلة الماورائية وهي الفضاءات التي تتأسس على ضوئها جوهر الكينونة العميقة.
والقصة القصيرة جنس أدبيّ حديث ومُركب البنية، يحتوي على المشاعر الجيّاشة والعدسة العاقلة والواسعة الواثقة التي تلتقط أكثر من مشهد، وتطرح جُملة من القضايا الشائكة والمُتداخلة في ذات القيمة الزمنية، وبسيمائية مُتشعبة تخلق المزيد من الانزياحات في الزمن القرائي لدى القارئ المُعتدل.
قراءة الحياة، وكلّ أسلوب في الكتابة بحاجة إلى ينابيعه الدافقة.
وبالغوص في عوالم القاصّة المُدهشة مشلين بطرس عبر قصتها «انفلات الزمن» نجد أن آلية السرد والنسيج اللغوي في عالم مشلين بطرس بحاجة ماسة إلى تفكيكية (جاك دريدا) للوصول إلى ينابيع الأفكار والمنظور الجمالي والقيمي. فهي تستمد أفكارها من بواطن السيمائية الطاعنة بالحضور، الملفوفة بالدهشة التاريخية حول ظلامية المصير.
فهذه القاصّة الأنيقة الصديقة مشلين بطرس من خلال قصتها المعنونة «انفلات الزمن» تُبدو كنحلةِ نشيطة سخية، تتنقل بين جذور الأفكار وأغصانها من جهة، وما بين الوعي واللاوعي من جهة أخرى، وتتفنن في نسج أنوال المشهد رغم تباعدها الزمني، وكذلك المكاني، هنا ثمّة اشتغال رصين في تحديد ماهية الجهات الافتراضيّة والمسافات الزمكانيّة.
لنقرأ القصة معاً:
انفلات الزمن
في الشرفة التي تطلّ على شارعٍ خالٍ إلا من سياراتٍ تنام على أكتاف أرصفة ملّت صمتها
جلستُ ووالدتي نتسامر في أحوال الناس، ونتساءل عن أخبار كورونا وجديدها من أزمة عالميّة افتُعلت لمآرب شلل اقتصاديّ في العالم أجمع…
ضوء خافتٌ من هاتفي يشير إلى وصول رسالةٍ من ديستويفسكي يخبرني فيه:
«أن الروح لن تشفى إلا بصحبة الأطفال».
ما شدّتْ انتباهي تلك الشاحنة الغافية منذ الصباح تحت شرفتي، لكنني الآن أقف وأحدّق بها، وقد تسمّرت عيناي على لفلوفة بيضاء بداخلها طفل صغير يغفو بأمان ويبتسم بسلام… إنّه طفل…
نعم إنه «بيبي»… هو متروكٌ منذ زمن ولا أحد في الشاحنة. سوف أحضره إلى هنا، قلتُ لوالدتي، وهُرعت إلى مدخل البناء…
فوجئتُ بظلام دامس يحيط بالمكان جعلني أتلفت يمنة ويسارًا، متسائلةً أين أنا؟ لماذا تغيّر كل شيء أين رحلت مقابس الإنارة؟ وأين أين… وكم من الزمن أسرتنا كورونا حتى غطت خيوط العنكبوت السقف؟
غيومٌ تتكاثف أمام الباب، ودخان يتصاعد من دون شيء يشي بحريق سوى بركان من الزمن يغلي بين أضلعي…
أبخرةٌ تتلاشى، وغيومٌ تتباعد وأنا في ذهولٍ تامٍ أمام باب وحده فُتح على مصراعيه، وأركضُ إلى الشاحنة صارخةً بأعلى صوتي توقف… توقف
أصعد إليها وأحمل الطفل بين ذراعيَّ صارخةً: إنها ابنتي… نعم هي ابنتي إلى أين تأخذونها؟
ينظر السائق إليَّ مشدوهًا وقد قلب شفته السفلى إشارة بلهاء تؤكّد عدم معرفته بما حصل، يدير محرّك المركبة ويرحل….
أُفاجأ بأنني على شاطئ بحرٍ أمواجُه كنجومٍ تتلألأ من ضوء بدرٍ قرّر أن يستحمّ الليلة في البحر…
ألُقي نظرةً على البناء، لأتأكّد من أنني لا أحلم، فأجدني عند مدخل منزلي مازلتُ أقف والطفل بين ذراعيّ…
إذًا متى جاء البحر إلى شارعنا، وكيف أصبح الرصيف شاطئًا، ومنذ متى ومتى..؟
وتتراكض الأسئلة على درجات صعودي…
تتلقف والدتي الطفل من بين يديّ وقد ملأ الحبور عينيها مؤكدةً:
نعم هذه حفيدتي… هي ابنتكِ يا حبيبتي
أفتح هاتفي كي ألتقطَ سيلفي، وإذ بصورة الطفل التي أرسلتَها لي منذ مدة تظهر أمامي على الشاشة وقد دوّنتَ تحتها انظري هذا هو الشقيّ الذي لا يدعني أنام…
يا له من تشابه بين الطفلين لا بل هو الطفل نفسه… إنها ابنتي التي وجدتُها توًا في الشاحنة…
تقفز ماري كوري كالغزلان أمامي قائلةً: ماما ماما… باركي لي يا ماما، ها قد حصلتُ على جائزة نوبل للمرة الثانية في الكيمياء والفيزياء
تأخذُ الهاتف من يدي وتقبّلني مستطردةً: «إننا نخاف فقط ما نجهله، لا يوجد ما يخيفنا على الإطلاق بعد أن نفهمه.
ترافقني ماري إلى غرفتي حيث أنتَ تغفو أو لا تغفو، تقبلُني على جبيني هامسًا:
– إن قوةَ الفكر قادرةٌ على إحداث المرض والشفاء منه.
أضع خطًا تحت مقولة ابن سينا، أغلقُ كتابي، وأبحرُ إلى تأمّل جديد.
هنا سنستعين القاصّة بفكرة قديمة جديدة قد تساعدنا في الوصول إلى ينابيع هذا الأسلوب الشيق في الكتابة من خلال هذا النص القصصي، والفكرة القائمة على خروج الروح من الجسد والتي تسمى الإسقاط النجميّ، فعند تحرّر الروح من أثقال الجسد تغدو سريعة التنقل بين فكي الكماشة أي الزمان والمكان من جهة، وضمن الزمن ذاته من جهة ثانية، ومن مكان إلى آخر بسرعة قد توازي سرعة الضوء.
ففي روابي هذه القصة لمشلين بطرس ثمة انتقالات مُذهلة في هذا السياق «أن الروح لن تشفى إلا بصحبة الأطفال» هذه الحكمة تأتيها من الكاتب الروسي (ديستوفسكي) ومن ثمّ تطرح تداعيات جائحة فيروس كورونا والآثار المُدمّرة للذات الإنسانية نتيجة التباعُد الاجتماعي، والتي تأتي في سياق الترهل الفظيع لماهية المشاعر الإنسانيّة كنتيجة للتطوّر المُذهل في الغرب وامتدادها إلى جميع بقاع العالم، فالفردانية خَلقتْ شروخاً مؤلمة في جوهر العلاقات الاجتماعيّة، وجاءت البدائل غير مسعفة لملء الفراغات التي أفرزتها الثورة الرقمية.
(فوجئتُ بظلام دامس يحيط بالمكان جعلني أتلفت يمنة ويسارًا، متسائلةً أين أنا؟ لماذا تغير كل شيء أين رحلت مقابس الإنارة؟ وأين أين… وكم من الزمن أسرتنا كورونا حتى غطت خيوط العنكبوت السقف؟)
هنا ثمة إضاءة لتداعيات الحجر الصحي على ماهية العلاقات الاجتماعية من جهة، وعلى عمق الحركة الحياتيّة للكائن البشري، فعندما تم إلزامنا بالمكوث في منازلنا ثمّة كسر تسرّبَ بهدوء إلى جوهر كينونتنا، والتي بدورها تبرمجت من خلال منظومة السلوكيات وعلى مساحات زمنيّة طويلة، فجاء الحظر ليحدث نوعاً من الانزلاقات في عمق الحركة لدى معظمنا.
فعندما تبحث مشلين بطرس عن «مقابس الإنارة»؟ وأين و… و»حتى غطت خيوط العنكبوت السقف؟»
هذا المشهد يُمثل نموذجاً للمرايا المحدبة التي تعكس جُل حيثيات الواقع الذي فُرض على العالم من خلال الحرب البيولوجيّة والمُتمثلة هنا بجائحة كورونا وتداعياتها على مختلف مفاصل الحياة.
لننتقل بصحبة القاصّة بطرس إلى فكرة أخرى، وهنا سنعرّج إلى الرواق الفكري في سياق قصة (انفلات الزمن) – (إن قوةَ الفكر قادرةٌ على إحداث المرض والشفاء منه)
مقولة لابن سينا تنتهي على ضوئها أحداث القصة، هنا ثمّة تكثيف في ماهية أهمية الأفكار على جوهر كينونتنا بعيداً عن الزمكانيّة.
لا بدّ من التشعبُ في تفسير أنواع وروائح الأشجار وثمارها والزهور في حديقة مشلين بطرس عبر هذا النسيج اللغويّ والمشاهد المأخوذة عبر أبوابٍ شبه مُحكمة في دواخلها على مسرح الرؤى.
«انفلات الزمن» نصّ قصصيّ مُدعّم بأضواء الحداثة من جهة، وببصيرة منفتحة على الآخر المُكمل لجُل أركان منظومة الكينونة التي منها تنبثق بذور أجواء الحياة الدافئة.
قصة «انفلات الزمن» من طينة الأعمال الأدبيّة الجاذبة. والتي تمنح القارئ الشغوف مساحات فكرية تسمح ببراءة الطبيعة لمُعانقة أرواحنا المتعبة في مونولوج مُحكم التعابير ووارف الروائح الباردة حد الهزيمة الغارقة في دهاليز الغياب المحتوم.