سكرتير مجلس الأمن الروسيّ: رؤية واضحة لعلاقات روسيا بالولايات المتحدة الأميركيّة والعالم
} د. أحمد الزين
في حديث شامل له مع الصحافيّة إيلينا تشيرننكو من صحيفة “كوميرسانت” أدلى نيكولاي باتروشيف، سكرتير مجلس الأمن الروسي، بالعديد من التصريحات الاستراتيجية الّتي تعكس النظرة الروسية للعلاقة مع الغرب، وتحديداً تلك “المتوترة” منها مع الولايات المتحدة الأميركية.. هذه العلاقة التي وبحسب مصدر روسي رفيع المستوى تمرّ بأسوأ مراحلها منذ نهاية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وقد ازدادت سوءاً بعد المقابلة المثيرة للجدل للرئيس الأميركي جو بايدن لقناة ABC منتصف الشهر الماضي.
بداية كان سؤال من الصحافية تشيرننكو حول الوضع في دونباس ـ أوكرانيا، وحول إذا ما كان من الممكن لروسيا أن تتدخّل في هذا الصراع. فأجاب باتروشيف بأنّ روسيا تراقب بدقة الوضع في دونباس وبأنّه يعتقد بأنّ ما يحصل هناك مفتعل من قبل الحكومة الأوكرانية والهدف منه إبعاد نظر المجتمع الدولي عن المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها كييف بعد ارتفاع الدين العام وبيع العديد من صناعات البلد إلى الأجانب بالإضافة إلى عوامل أخرى زادت من سوء الأزمة الاقتصادية مثل شحن التراب الأوكراني الأسود وخشب الغابات إلى الخارج.
وحول العلاقة الروسية الأميركية، وفي معرض إجابته عن سؤال بشأن ارتدادات مقابلة الرئيس الأميركي بايدن الّتي وصف خلالها الرئيس الروسي فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين بالقاتل، قال باتروشيف إنّ هذا التّصريح خطير ويشبه «خطاب فولتن» الشهير منذ 75 عاماً حين وصف تشرشل، بحضور الرئيس الأميركي ترومان، روسيا بالعدو، وكانت هذه أولى شرارات الحرب الباردة… لكن مع هذا التشبيه الذي قد ينبئ بصراع جبابرة جديد، يرى باتروشيف أنّه ما من ضرورة للتصادم بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية بل على العكس فهو يعتقد أنّ التعاون بينهما ضروري الآن أكثر من أيّ وقت مضى، خاصة في ظل وباء كورونا المستجدّ، ولا يجب أن ينحصر هذا التعاون في الجانب الطبي بل ينبغي أن يتعداه إلى مجالات أخرى خاصة أنّه بعد تفشي الوباء، شهد العالم ازدياداً في نسبة الإرهاب العالمي والفقر والاضطرابات والقائمة تطول، ومن هذا المنطلق أعرب عن تمنّيه بأن تنصت واشنطن لصوت المنطق وتبدأ حواراً بنّاء مع روسيا.
وعن مجالات التعاون بين البلدين، أشار باتروشيف إلى أنّ هذا التعاون يجب أن ينطلق من التجربة الناجحة في الحوار البناء للتمديد لاتفاقية تخفيض الأسلحة النووية بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة «ستارت». أمّا مجالات التعاون الملحّة في الوقت الرّاهن فهي مكافحة الإرهاب والتطرّف والجريمة المنظّمة وهذا التعاون يمكن أن يشمل بعض البلدان مثل سورية وحتى التسوية الإقليمية الكبرى في الشرق الأوسط.
كذلك يمكن لهذا التعاون، حسب باتروشيف، أن يطال أموراً إنسانية مثل القضاء على المجاعة ومعالجة القضايا البيئيّة كالتلوّث والتغيير المناخي.. على أنّ التعاون في الموضوع السيبراني يكتسب الأهميّة الكبرى نظراً لحساسيّته وأهميّته… وأضاف أنّ روسيا تسعى بصدق لتحقيق هذا التعاون منذ فترة طويلة لكنها كانت تجابه دائماً بتعنّت أميركي واتهامات أميركية لروسيا بهجومات سيبرانيّة على منشآت أميركية مختلفة… ويؤكد باتروشيف بطلان هذه الاتهامات وعدم استنادها إلى أيّ دليل.
هل سيكون لمثل هذا التّصريح المشين من قبل الرّئيس بايدن بحقّ نظيره الرّوسي تأثير يمنع حصول لقاء قمّة بينهما؟ سألت الصحافيّة.. فأجاب باتروشيف إنّ تصريحاً كهذا ليس له سابقة من قبل حتّى في عز الأزمات بين البلدين لم يصدر مثله، لكنّه تمنى أن لا تكون لهذا التصريح تبعات سلبية مستقبلاً. ومع أنّ تصريح بايدن منافٍ للآداب الدبلوماسية، أضاف باتروشيف، فإنّه متأكد من أنّ الإدارة الأميركية لن تعتذر عن هذه الهفوة خاصة أنّها لم تعتذر عن تصرّفات أكثر دموية مثل إلقاء القنبلة النووية على اليابان!
ولدى سؤال الصحافية تشيرننكو عمّا إذا كانت روسيا ترى في أميركا تهديداً لها مثلما ترى أميركا ذلك في روسيا، أجاب باتروشيف أنّ التهديد الرئيسي لموسكو حالياً هو جائحة كورونا… ويردّ باتروشيف أنّ في تصوير روسيا على أنّها تهديد للمصالح الأميركية خرافة يتناقلها السياسيون الأميركيون جيلاً بعد جيل. ويضيف باتروشيف أن وباء كورونا قتل أكثر من 560000 إنسان في الولايات المتّحدة وهذا العدد يفوق بكثير عدد الضحايا الأميركيين في الحربين العالميّتين الأولى والثانية مجتمعتين. وهذا العدد يضاهي عدد الضحايا في الحرب الأهلية الأميركية. وتساءل باتروشيف بدهاء كبير: هل كان هنالك دور لروسيا في هاتين الحالتين؟
مما لا شك فيه أنّ روسيا تحاول دائماً التعاون مع الدول الأخرى. وأكبر دليل على ذلك أنّها توزع لقاحات كورونا على أيّ دولة تطلبها حتى لو كان هنالك اختلاف سياسي كبير معها، أمّا الولايات المتحدة الأميركية فقد كانت أنانية الى أبعد حدّ في تعاملها مع هذا الوباء حتى مع أقرب حلفائها.
وفي لفتة خطيرة رأى باتروشيف بأنّ لدى موسكو سبباً وجيهاً للاعتقاد بأنّ الولايات المتحدة تطور أسلحة بيولوجية على طول حدود روسيا والصين. فحين سألته تشيرننكو عن مزاعم بأنّ الصين «تسبّبت عمداً» في جائحة فيروس كورونا، أجاب باتروشيف أنّه يقترح أن ينظر المراقبون في كيفية نمو المزيد والمزيد من المعامل البيولوجية الخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة في العالم وبصدفة غريبة، قرب الحدود الروسية والصينية. ويشير باتروشيف إلى أنّ الدول التي تحتضن هذه المعامل البيولوجية لا تدري ما يحصل خلف جدرانها وأنّ هنالك تفشيّا وبائيّاً «غير معهود في هذه البلدان»، رغم أنه لم يحدّد أيّ مرض يقصد. وعندما سُئل عما إذا كان يعتقد أنّ الأميركيين يطوّرون أسلحة بيولوجية هناك، أجاب باتروشيف أنّ لدى موسكو سبباً وجيهاً للاعتقاد بأنّ هذا هو الحال بالضبط.
وأضاف باتروشيف، في الإطار ذاته، قائلاً إنّ روسيا وشركاءها الصينيين لديهم العديد من علامات الاستفهام.. فقد أخبرهم الأميركيون أنّ هنالك محطات صحية ووبائية سلمية قرب حدود البلدين، لكن لسبب ما، يثير ذلك ذكريات فورت ديتريك في ماريلاند، حيث كان الأميركيون يعملون في مجال علم الأحياء العسكري لعقود.
وسألت الصحافيّة باتروشيف عن الأسلحة الكيماوية الروسية، فأكّد على رفض روسيا الاتهامات الموجّهة إليها بتطوير واستخدام أسلحة كيماوية، بما في ذلك ما قيل حول الجاسوس السابق سيرجي سكريبال وابنته والمعارض الروسي أليكسي نافالني.. وقال باتروشيف، الذي كان يشغل في وقت سابق منصب مدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، إنّه ما من دليل على هذه الاتّهامات فهي ليست إلاّ تكهنات لا أساس علميّاً لها.
وبعد، فإنّ للمدقّق في مقاربة السياسي المخضرم باتروشيف لسياسة روسيا وفي سياسة الولايات المتّحدة الأميركية، أن يلحظ استعداد روسيا للحوار مع جميع الدول وفتحها الباب دائماً أمام مَن يرغب بالتعاون. أمّا الولايات المتحدة الأميركية فإنّها لا تقيم وزناً لعلاقاتها حتّى مع حلفائها، فما بالك بمن تعتبرهم أعداء لها، ولعلّ مثل هذا الأمر نهج اعتمدته أميركا منذ الحرب العالمية الثانية وليس أمراً مستجدّاً في السياسة الأميركيّة.
إنّها الدبلوماسية الروسية المتّصفة بالدهاء والحنكة أمام السياسة الأميركية المتهورة التي تتخبط في قراراتها وتصرفاتها… من هنا فإنّ هذه المقابلة الشاملة تشكّل رسالة لمن يعنيهم الأمر للالتزام بالعلاقات الدبلوماسية والتعاون مع روسيا بما فيه مصلحة البشرية. فروسيا تسعى دائماً لما فيه مصلحة الجميع… وفي المقابل فإنّ اللعب مع المارد الروسي ليس من مصلحة أحد مهما كبر شأنه… ومَن يدري فقد يفهم اللبيب من الإشارة…!