الانسحاب الأميركيّ من الإقليم بين التردّد والحتميّة…
د. جمال زهران*
منذ أن تولّى بايدن رئاسة الولايات المتحدة في العشرين من كانون الثاني/ يناير الماضي، وتوشك المئة يوم الأولى على حكمه أن تنقضي، فإنه يلاحظ ذلك التردّد والتخبّط في التصريحات سواء له، أو لمساعديه (وزير الخارجية – وزير الدفاع – مستشار الأمن القومي وآخرين). كما أنه يلاحظ ذلك التناقض بين القول والفعل، لدرجة أنّ الاستراتيجية الأميركية أضحت متخبّطة ومرتبكة، وغامضة لدرجة أنّ الحلفاء التابعين لأميركا في الإقليم بدأوا يتحركون كردّ فعل على هذا التخبّط، ويحاولون التحرّك بعيداً عن أميركا، لمحاولة الإفلات من ضغوط إدارة بايدن، والالتفاف عليها ولو بشكل غير مباشر. وتكاد كلّ هذه المحاولات في طريقها للفشل، للإدراك المتبادل بين هذه الأطراف أنّ ضغوط الولايات المتحدة وإداراتها المتعاقبة، لا بدّ من الانصياع لها، وأنّ محاولات الإفلات منها في حكم المستحيل، وأنّ التحايل عليها هي في النهاية لتخفيف الضغوط وتقليل خسائرها وتداعياتها، وليس لإلغائها أو اعتبارها كأنها لم تكن. فالأوامر قد صدرت من المركز (إدارة بايدن حالياً)، إلى الكيانات التابعة التي تسمّى تجميلاً بالحلفاء والتابعين! وما عليهم إلا التنفيذ والانصياع لأوامر المركز!
وفي هذا السياق، فإنّ التقاط أحد أضلاع الاستراتيجية الأميركية في الإقليم، وهو الانسحاب الأميركيّ من الإقليم، أم استمرارية الوجود الشامل، في الإقليم. والحادث في هذا الموضوع، أنّ الخطاب الصادر عن إدارة بايدن، يتضمّن الانسحاب العسكري من الأراضي العراقية ومن الأراضي السورية، وهو امتداد لسياسة ترامب التي قضت بالانسحاب العسكري من أراضي الدولتين إقراراً واعترافاً بالفشل في تحقيق الأهداف الاستراتيجيّة للولايات المتحدة، وارتفاع الخسائر في المعدّات وفي العسكريين بشكل كبير، فضلاً عن تزايد التكاليف المادية لهذا الوجود العسكري، بما لا يتناسب مع الأهداف الموضوعة أو الاستراتيجيّة الشاملة لأميركا. فقد قرّر ترامب – الرئيس الأميركي السابق – الانسحاب الكامل من سورية، واستقال وزير الدفاع آنذاك لعدم موافقته على هذه السياسة، ثم تراجع ترامب إلى خيار تخفيف الوجود العسكريّ الأميركيّ في سورية، إلى (2000) ألفي مقاتل، بدلاً من الانسحاب الكامل!
وفي ظلّ تعرّض القواعد العسكرية الأميركيّة في العراق، والقوافل العسكرية الأميركية أيضاً، إلى هجمات منظمة، رفعت من حجم الخسائر البشريّة والخسائر في العتاد والأبنية، قرر ترامب أيضاً تخفيف الوجود العسكري في العراق. خاصة أنّ البرلمان العراقي – الذي لا يملك بطبيعة الحال إرادة نفسه! قرّر خروج جميع القوات العسكرية الأميركية من الأراضي العراقية، وتمّ إبلاغ أميركا بذلك، وللأسف لم تنصَعْ لذلك. ولكن في العرف الأميركي، فإنّ الوجود العسكري بات في موقف حرج بعد مطالبة برلمان الدولة العراقية، التي يوجد على أرضها قوات عسكرية، وعليها أن ترحل. إلا أنّ أميركا تجاهلت ذلك، نظراً لضعف المؤسسات السياسية في العراق منذ الاحتلال الأميركي في التاسع من نيسان/ أبريل 2003، وإلى الآن، بكلّ أسف!
وعلينا ألا ننسى ذلك الهجوم الإيراني على قاعدة عسكرية أميركية (عين الأسد)، راح فيها أكثر من (300) عسكري أميركي، ومئات الجرحى، وتدمير ضخم للقاعدة العسكرية، في أعقاب الاغتيال الأميركي لـ سليماني والمهندس. الأمر الذي ساعد في إصدار القرار العراقي من البرلمان، بإخراج القوات الأميركية، وأيضاً، وجدت أميركا نفسها أمام استهداف مباشر لقواتها، وقواعدها العسكرية في العراق، مما أدّى إلى المسارعة الأميركية في التفكير بالانسحاب العسكري وتفكيك قواعدها من أراضي الدولتين العراقية والسورية.
فالوجود العسكري الأميركي في الدولتين، غير شرعي، وهو وجود احتلال، وليس بإرادة الدولتين، ولذلك فهو يستوجب الانتهاء، خاصة مع استمرار المقاومة لهذا الوجود الأميركي في العراق وسورية، وكلّ يوم تنشر أخبار عن هجوم غير معروف على رتل عسكري أميركي، أو على قاعدة هنا أو هناك، بل هناك هجومات متعددة على منطقة «الحزام الأخضر»، في العراق، وعلى منطقتي الرقة والحسكة في سورية (الشمال الشرقي). والآن يأتي دور إدارة بايدن، الذي يظهر أنّ سياساته وخياراته عكس سياسة سلفه ترامب، عموماً. إلا أنّ خيار الانسحاب العسكري على وجه الخصوص، هو قرار استراتيجيّ، إلا أنه يعاني من التخبّط والتردّد، ولا يتسم بالحسم، رغم أنني أراه امتداداً لقرار ترامب بالانسحاب، في ظل ظروف موضوعية تفرض حتمية هذا الانسحاب..
ولو تمّ الربط بين حتمية عودة أميركا إلى الاتفاق النووي مع إيران، وما يستتبعه من رفع العقوبات الأميركية عليها، في ظلّ عقد اتفاقية استراتيجية بين الصين وإيران لمدة ربع قرن مقبل، سبق أن أشرت إليها من قبل، وذلك وفقاً لما يحدث الآن في مباحثات جنيف، فإنّ الانسحاب الأميركي الشامل وليس العسكري فقط، أصبح حتميّاً، رغم ما تبديه إدارة بايدن، من تردّد واضح وعدم حسم قاطع. فالإقليم تجري إعادة هيكلته الآن، ولهذا حديث آخر…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.