السدّ الإثيوبيّ المزعوم!
د. محمد سيد أحمد
لم يعد يشغل أبناء وادي النيل في مصر والسودان هذه الأيام غير السدّ الإثيوبي المزعوم الذي يطلقون عليه اسم «سدّ النهضة»، ولا نعلم أيّ نهضة يريدها القائمون على الحكم في إثيوبيا، وعلى جثث ما يقرب من 150 مليون مواطن مصري وسوداني سوف يموتون جوعاً وعطشاً بتشييد هذا السدّ المزعوم، فهل النهضة لا تأتي إلا على جثث الشعوب؟ وكما شيّدت أوروبا وأميركا نهضتهما الحديثة على جثث شعوب مجتمعات العالم الثالث عبر الاحتلال العسكري تارة والنهب الاقتصادي لثروات وخيرات هذه المجتمعات تارة أخرى، تحاول إثيوبيا تشييد نهضتها المزعومة بإيحاء وإيعاز ودعم من بعض القوى الإمبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، والعدو الصهيوني الذي زرع عنوة داخل منطقتنا العربية ليظلّ شوكة في حلق ما يزيد عن 400 مليون مواطن عربي.
وبمتابعة مجريات الأحداث خلال هذا الأسبوع سواء عبر ما تصدره الحكومات الرسمية بالدول المعنية بالأزمة، أو عبر ما يكتب على وسائل الإعلام المختلفة، وما تتناوله مواقع التواصل الاجتماعي، يمكننا رصد بعض الملاحظات التي من خلالها نستطيع رسم السيناريوات المحتملة لمسار الأزمة، وتأتي الأطماع الدولية عبر البوابة الإثيوبية لمعاقبة مصر من خلال حرمانها من شريان حياة المصريين وهو نهر النيل الذي قال فيه المؤرّخ الإغريقي الشهير هيرودوت الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد إنّ «مصر هبة النيل» وهي عبارة تشير إلى أنّ الحضارة التي ازدهرت على ضفافه، ما كانت لتكون لولا ماء النيل وطميه المتجدّد من كلّ عام، لذلك لم يبالغ العالم الفرنسي جاك فاندييه في دراسته المعنونة «المجاعة في مصر القديمة» عندما أشار إلى أنّ نهر النيل هو الأساس الذي اعتمدت عليه الحياة المادية والاجتماعية في مصر، لذا اجتهد المصريّ القديم في ابتكار طرق تهدف إلى الاستفادة من مياه النهر، وذلك من خلال تنظيم الري وحفر الترع لزراعة أكبر مساحة ممكنة من أرض الوادي، لذلك لا عجب أن يدرك المصريّون القدماء أنّ نهر النيل هو رب الحياة التي خلقت حضارتهم، لذا نظروا له بعين القداسة، وخصصوا له عدداً من الأرباب أشهرهم الإله «حابي» والذي يمثل فيضان النيل سنوياً، لذلك تجسّدت العقيدة المصرية القديمة في العبارة الشهيرة «إذا انخفض منسوب النهر فليهرع جميع الجنود ولا يعودوا إلا بعد تحرير النيل مما يقيّد جريانه».
ويذكرنا الباحث والمؤرّخ المصري الشاب عمرو صابح بعدد من المحطات التاريخية التي حاولت فيها القوى الامبريالية الغربية باستغلال إثيوبيا للإضرار بالشعب المصري عبر بوابة نهر النيل، ففي عام 1497 خرج اسطول برتغالي للسيطرة على الشرق وتجارته وكسر شوكة المسلمين، وتحطيم مصر التي أنهت الوجود الصليبي في القدس، ورحب ملك الحبشة بمشروعهم الذي كان يهدف لتحويل مياه النيل الأزرق إلى البحر الأحمر، وفشل المشروع لاستحالة تنفيذه، وتجدّدت المحاولة في عام 1513 أثناء الحرب بين مماليك مصر والبرتغاليين للسيطرة على طريق التجارة إلى الهند وفشل مرة أخرى، وفي عام 1705 حاول ملك فرنسا لويس الرابع عشر تحويل مجرى النيل الأزرق للبحر الأحمر في محاولة جديدة بالاتفاق مع ملك الحبشة، لكن فشلت المحاولة بعد أن أرسل ولي مصر فرقة من المماليك اعترضت المبعوث الفرنسي وقتلته، وفي 1856 نشب خلاف بين مصر والحبشة على الحدود الشرقية للسودان، وحاول الإمبراطور الحبشي تيودور تحويل مجرى النيل الأزرق صوب البحر الأحمر لكنه فشل، وفي عام 1935 كانت المحاولة الأخيرة الفاشلة لتحويل مياه النيل الأزرق للبحر الأحمر نتيجة التضاريس الصعبة عبر محاولة المحتل الإيطالي للحبشة منع وصول المياه إلى مصر.
ومع فشل كلّ محاولات تحويل مسار مياه النيل الأزرق إلى البحر الأحمر تاريخياً، جاءت محاولات الولايات المتحدة الأميركية بعد أن برزت كقوّة امبرياليّة جديدة في العالم بعد الحرب العالمية الثانية لتطرح فكرة معاقبة مصر عبر بناء السدود فكانت محاولاتها الأولى في الستينيات من القرن العشرين والتي تصدّى لها الرئيس جمال عبد الناصر بالضغط على الإمبراطور هيلا سيلاسي ومنعه من تنفيذ مشروع بناء السدّ، وهو ما تكرّر بعد ذلك خلال حكم الرئيس السادات والذي منعه بتهديد مباشر بشن ضربة عسكرية لنسف أي سدّ يعوق جريان نهر النيل ووصوله لمصر، وتكرّرت المحاولة مرة أخرى في عصر الرئيس مبارك وكان حاسماً في ردّه وتهديده بنسف أيّ سدّ تحاول إثيوبيا إقامته.
ويتضح من المحاولات التاريخية أنّ القوى الامبريالية الغربية حاولت مراراً وتكراراً معاقبة مصر عبر البوابة الإثيوبية، وما مشروع «سدّ النهضة» المزعوم إلا محاولة جديدة من قبل المشروع الإمبريالي الغربي لتركيع مصر حيث تمّ استغلال حالة الفوضى الناتجة عن انتفاضة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 للبدء في تشييد السد المزعوم، وكما كان الحكام الإثيوبيون تاريخياً متواطئين مع القوى الإمبريالية للإضرار بالمصالح المصرية، فقد قاموا هذه المرة بالإسراع في تشييد السدّ لوضع مصر أمام أمر واقع، وبالطبع وبعد فشل كلّ مسارات التفاوض وإصرار إثيوبيا على إتمام المرحلة الثانية من الملء من دون إنجاز اتفاق قانوني ملزم بحفظ حق مصر والسودان في حصتهما التاريخية من مياه النيل، وبعد الدعم الأميركي الواضح الذي اتضح عبر تصريحات المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأميركية بأنّ الولايات المتحدة لن تضغط على إثيوبيا لقبول وساطتهم، وأنهم لا يدعمون حلاً خارج التفاوض، وإياكم من الإجراءات الأحادية، كلّ هذه المؤشرات تجعل السيناريوات المقترحة محدودة للغاية.
فالسيناريو الأول المحتمل يأتي عبر الضغط المصري خاصة بعد تأكيد الرئيس السيسي بأنّ مياه النيل خط أحمر وأنّ كلّ الخيارات مفتوحة، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحرك المجتمع الدولي للتأثير على إثيوبيا لوقف عملية الملء الثاني للسدّ والجلوس إلى طاولة المفاوضات مجدّداً لإنجاز اتفاق ملزم للحفاظ على حصة مصر والسودان التاريخية في مياه النيل، والسيناريو الثاني هو التعنت الإثيوبي والإصرار على الملء الثاني في موعده بعد ثلاثة أشهر ورفض الجلوس على طاولة المفاوضات وفرض أمر واقع وهو ما يدفع مصر والسودان إلى توجيه ضربة مؤثرة لتعطيل العمل في استكمال السدّ مؤقتاً حتى يتمّ إنجاز الاتفاق الملزم، والسيناريو الثالث وهو التعنت الإثيوبي وتوجيه ضربة عسكرية ناسفة للسدّ من قبل مصر والسودان تنشب على أثرها حرب إقليمية واسعة، وبالطبع لا تسعى مصر والسودان لأيّ حلول خارج الشرعية الدولية لكنهما يبحثان عن حل يحفظ لهما حياة شعبهما المهددة بالموت جوعاً وعطشاً، اللهم بلغت اللهم فاشهد.