الشاعر المهجري الصديق نبيه سلامة
الشاعر نبيه سلامة يلقي إحدى قصائده الرائعة في احتفال حزبي أقيم في نادي مرجعيون ويبدو الشاعر اللبناني المتفوق توفيق بربر والأمين لبيب ناصيف
لم يكن شاعراً ملهماً فقط عندما تعرفت عليه عام 1976 في جريدة «الأنباء» حيث كان يحرر الصفحة الأدبية فيها إلى قيامه بمهام سكرتير التحرير، إنما كان عملاقاً (وهو القصير القامة) في أخلاقه وسخائه وفي ترفّعه عن الصغائر، وقلعة شامخة من الإنسانية السمحاء والوطنية الصادقة.
لم أره يوماً إلا والابتسامة على ثغره، يستقبلك بالطيبة والبشاشة والاحترام، ولم اسمعه يوماً يتناول أحداً، حتى وان أساء إليه، هو الشاعر فوق كل منبر وفي كل مناسبة.
وعملت في «الأنباء» مديراً لتحريرها، تلك الجريدة الرائدة في البرازيل التي كان أصدرها الأديب والشاعر والصحافي والنائب السابق في مجلس الشعب في الشام، عبد اللطيف اليونس ثم اشتراها في العام 1974 الروائي والمؤرّخ الأمين نواف حردان، أمير الرواية التاريخية عن حق وجدارة، والذي وافته المنية في حزيران من العام 2000 بعد أن كان طلّق اغترابه وعاد نهائياً إلى الوطن في العام 1992. وطوال تلك السنة التي أمضيتها في البرازيل 1976-1977 وجدت في الشاعر نبيه سلامة الإنسان الفذ، كما الشاعر المحلق، ثم التقيت به ثانية في العام 1983 فإذا به كما عرفته، رغم تقدّمه بالعمر، ذلك المحب، المتمتع بروح الشباب والنكتة الحلوة، الرائع المعشر، الدافئ اللسان، المحدّث اللبق والشاعر الذي تنحني له المنابر. وإني لا أنسى ذلك اللقاء الرائع الذي جمعه بالبطريرك الأرثوذكسي اغناطيوس هزيم عندما زار البرازيل، فقد رأيت سيادة البطريرك ينحني محتضناً شاعرنا المسن ويقبله ويهتف له بحب وتقدير: يا معلمي، فقد كان الشاعر نبيه سلامة أستاذاً للبطريرك هزيم في فترة طفولة الأخير في بلدته محردة.
ولا أنسى مبادرة الشاعر الكبير إلى توجيه قصيدة إلى ابنتي «إيلينا»(1) عند ولادتها في «سان باولو».
فمن هو شاعرنا الكبير نبيه سلامة؟
هو ابن نقولا سلامة ونبيهة قزما سلامة. وُلد في مدينة حمص بتاريخ 04/03/1908. دخل المدرسة للمرة الأولى عام 1919 إذ أن الحرب كانت قد عطلت المدارس. في الفترة 1925 – 1927 عمل مراسلاً لكل من جريدتَيّ «ألف باء» الدمشقية، و»لسان الحال» البيروتية.
عام 1927 حصل على شهادة أهلية التعليم العالي، وعلّم في كل من محردة، حماه، دمشق وحمص.
عام 1928 شارك مع فريق من أدباء حمص بإصدار مجلة «البحث»، وعام 1930 أصدر رواية «لذائذ الانتقام».
في عام 1935 غادر إلى البرازيل واستقر في أكبر مدنها سان باولو، حيث عمل محرراً في جريدة «الرابطة الوطنية السورية» التي كان يرأس تحريرها العلّامة الدكتور خليل سعادة، واستمر إلى أن أغلقت الحكومة البرازيلية جميع الصحف الأجنبية أثناء الحرب العالمية الثانية.
في الفترة 1940-1946 عمل في التجارة الثابتة في سان باولو، وبعد أن تعرّض محله لحادث أدى إلى احتراقه، انتقل إلى بلدة «رانشاريا» في داخلية البرازيل.
وعام 1956 تزوج وأنجب ولدين: سلوى تيمناً بعمته الأديبة المعروفة سلوى سلامة أطلس، وسامي.
عام 1964 اشترك بتأسيس «جامعة القلم» بعد غياب العصبة الأندلسية عن الساحة الأدبية المهجرية.
عام 1967 استقر مجدداً في سان باولو، وبدأ يراسل جريدة «حمص» وينشر في رسائله إليها أخبار المغتربين منها، وقد استمر يراسلها متطوعاً حتى آخر سنين حياته، ثم حرر في مجلة «المراحل» من العام 1967 حتى العام 1970، وفيه أصدر كتاباً عن الأديب داود شكور.
بدأ عمله مع الأستاذ عبد اللطيف اليونس في جريدة «الأنباء» في العام، 1970 واستمر مع الأستاذ نواف حردان بعد أن انتقلت إليه ملكية الجريدة في العام 1975 حتى العام 1979 وكان يتولى أمانة سر تحريرها ومسؤولاً عن الصفحة الأدبية.
عام 1971 قام الشاعر سلامة بزيارة وطنه بعد غياب طويل، فأقام له أدباء حمص وشبابها حفلاً وداعياً في مقصف «الغاردينيا» في ختام زيارته، ألقى فيها قصيدته «زفرة وداع»، قبل ذلك كان ألقى قصيدة بعنوان «عودة مهاجر» في حفل الاستقبال الذي أقامه له «نادي الرابطة الأخوية» في حمص.
أصدر عام 1973 ديوانه «أوتار القلوب» الذي ضم قصائده الرائعة.
عام 1978 ساهم في تأسيس «عصبة الأدب العربي» مع الأديب المؤرخ الأمين نواف حردان والشعراء الرفيق شفيق عبد الخالق، الرفيق فارس الحاج بطرس، الشيخ شكيب تقيّ الدين، إبراهيم سلمان، أنطون لاذقاني، الرفيق عبد الكريم صبح، خليل العقدي، الرفيق يوسف المسمار، محمد ناصر وغيرهم. وانتخب في إحدى الدورات رئيساً لها لمدة سنتين.
عام 1984 أصدر عنه الأديب السوري نعمان حرب كتاباً ضمن سلسلة كتبه «قبسات من الأدب المهجري».
زار الوطن مرة ثانية في العام 1985.
وافته المنية في شـهر كانون الثاني عام 1994 ونشـرت صحف النهار، السـفير، والديار خبر نعيه الذي كانت عمّمته عمدة الإذاعة والإعلام بناءً لما كانت تبلّغته عمدة شـؤون عبر الحدود من منفذية السـاحل البرازيلي.
ولاحقاً أقامت له «عصبة الأدب العربي» في البرازيل حفلة تأبينية كبيرة في المركز الثقافي السوري في سان باولو افتتحها رئيس فياراب البرازيل الدكتور رزق الله توما كلمة بالبرتغالية، ثم عرّف الاحتفال الرفيق الدكتور فادي عبد الخالق (الامين لاحقاً) وتوالى على الكلام خطابة وشعراً كل من الأدباء والشعراء الشيخ شكيب تقيّ الدين، الرفيق شفيق عبد الخالق، إبراهيم سلمان، الرفيق شريف إبراهيم، أنطون لاذقاني، رفول باخوس، طوني أشمر، الرفيق عبد الكريم صبح، واختتم الاحتفال التكريمي مدير المركز الأستاذ تميم دعبول مشيداً بمناقب الشاعر الكبير، ووطنيّته وشاعريته المميزة.
وفي أيلول عام 1994 أصدر الأستاذ مدحت عكاشة عدداً خاصاً من مجلته «الثقافة» عن المرحوم الشاعر الكبير نبيه سلامة، من محتوياته:
حفلة تأبين للشاعر الكبير نبيه سلامه أسرة الثفافة
الخالدون رئيس التحرير
الشاعر المهجري الكبير نبيه سلامه نعمان حرب
كلمة عريف الحفل د. فادي عبد الخالق
غاب النبيه – شعر إبراهيم سلمان
الشاعر نبيه سلامه د. عبد اللطيف اليونس
رثاء نبيه سلامه – شعر شفيق عبد الخالق
الشاعر نبيه سلامه نواف حردان
الغائب الحاضر – شعرطوني يوسف أشمر
وداعاً أيها الشاعر أسعد زيدان
رثاء الشاعر نبيه سلامه – شعر شكيب تقي الدين
وردة ذات لون حارشريف إبراهيم
قف في ربى حمص – شعرعبد الكريم صبح
كلمة الشاعر الأستاذ أنطون لاذقاني
الشاعر المهجري الكبير نبيه سلامه سميرة رباحية طرابلسي
بيبلوغرافيا الشاعر نبيه سلامه يوسف عبد الأحد
مقتطفات من شعر نبيه سلامه
مغنى الأماني نبيه سلامه
منارة الإلهام نبيه سلامه
لم يكن الشاعر نبيه سلامة عضواً منتظماً في الحزب السوري القومي الاجتماعي، إنما كان صديقاً له، يشارك في مناسباته، وكثيراً ما ألقى فيها قصائد وطنية، منها قصيدته في احتفال أقامه فرع الحزب في سان باولو– البرازيل، في الأول من آذار، ذكرى ولادة زعيم الحزب أنطون سعاده، وهي التالية:
شـق الطريق وأشـعل القنديلا
|
ولـد الزعيم فكان مولد فكرة
|
بزغت تشـق إلى المراد سـبيلا
|
فتقبلتهــــا أنفـس عطشـانــة
|
عرفت بـها أمـلاً يبـل غليلا
|
هي فكـرة وطنيـة لا ترتضي
|
أن يهضم الوطن الأصيل دخيلا
|
تدعو ليقضـي في البلاد رجالها
|
أيكون مغتصب الحدود وكيلا
|
وتريد شـعباً واحداً وموحدا
|
ليعيـد عهـداً للبـلاد جميلا
|
وقضى الزعيم ولم تغب أنواره
|
ضل الذي حسب الكسوف أفولا
|
فتناولت منـه الرسـالة فتيــــــة
|
وقفت عليها عزمهــا المفتـولا
|
وتمـركزت بين القلوب تصونها
|
حرس أبت أن ترهـب التهـويلا
|
لم يقصف العسف البغيض قناتهم
|
حملـوا العذاب كحملهم إكليلا
|
سـاروا بتوجيه الزعيم كمؤمن
|
يتـأبـــــــــط القـــــــــرآن والإنـجيلا
|
قاموا بتمثيل الرسـالة حسبما
|
يقضي الوفاء، وأحسنوا التمثيلا
|
ومتى دنا عهد القطاف وحققت
|
تلك الجهود المقصـد المـأمـــولا
|
سـيخلد التاريخ أعمال الذي
|
شـق الطـــــــريق وأشـعل القنديلا
|
وفي مناسبة أخرى، عام 1968، ألقى الشاعر سلامة قصيدة في حفلة تكريمية أقامها النادي الحمصي احتفاءً بالزيارة التي قامت بها الأمينة الأولى جولييت المير سعاده إلى البرازيل، جاء فيها:
سـلم البيت كيف صــــان جمـاله
|
أن يغـب كوكـب أضاء مثاله
|
منـزل كالرياض.. خصـباً وطيبا
|
باســـق النخل سـادراً ظلاله
|
من تكنّى بِاسـم «السعاده» يوماً
|
جابه الليل حامـلاً مشـعاله
|
حمـلت وحـدها الصليب وساما
|
عندمـا أرهـف العـتيّ نصاله
|
لم يزعـزع إيمانـها الحر سـجن
|
واسـتـمرّت قوالــــــة فعـّـــــــاله
|
يا فتـاة الجهـاد فاتــك خـــــــدن
|
كـان بـدراً وكنت للبدر هاله
|
*شـذرات من شـعره
جئـت مثـل المسـيح تعمـل خيـــــراً
|
حامـلاً في الغيـاهب المصباحا
|
كان عيسـى في جبهة الدهر فجراً
|
وأتـى أحمـد فـكان المـصبـاحـا
|
أهوى بلادي ولا أنسـى مودتـها
|
وأمحض الحب في سـري وفي علـني
|
يا ليتـه لم يكــن يـوم ولـدت به
|
إن لم أقـم هاتـفاً لبيـــــــــك يا وطنـــــي
|
لا تقـل أمـراً وتنفـيـه غـداً
|
خجـلاً أو رهبـة مـن شـرس
|
لا تـكن حـرباء فـي ألوانـها
|
وإذا جـرعـــــــت مـــــرّاً فـاحـش
|
كن أبيّ النفـس لا تخـشى الردى
|
وانطـق الحـق وإلا فـاخـرس
|
مـــــــن شــاد موطنـه علـى
|
جهـل كمـن في الرمـل شـاد
|
ويـل لمـن عصـب العيون
|
وعـاش مسـلوب الـفـؤاد
|
يـجـــــــــد الظـلام صبـيـحـة
|
والصبـح مشـتـد السـواد
|
لم يبقَ مني سـوى رسـمي فأتـركهُ
|
لعـلّه نـاقـلٌ بعضـي لأحـبـابـي
|
والخـير في الرسـم صمتٌ لا يفارقه
|
فليس يُـدرك من يـحظى به مـا بـي
|
ما غابت الشـمس أو لاحـت لمغترب
|
إلا لتـنـقل عـن أوطـانـه لـمـعا
|
يـحيا المهـاجر والذكـرى تـؤرقــــــــه
|
ولا تـهـادنــه إلا إذا رجـعـــــــــا
|
يا للغـريب وقـد شـاخت عزيمته
|
مـاذا اسـتفاد مـن الـمال الذي جمعا
|
هـب الـدراهم ردّت بعض صحتـه
|
فمـن يـردّ لـه الأيـام والجـمـعا
|
في النادي الحمصي خلال الحفلة التي أقمناها للبطريرك الأرثوذكسي اغناطيوس هزيم، وأبدو الى يسار غبطته، والى يمينه الأمينان نواف حردان وألبرتو شكور.
أذكر انّ غبطة البطريرك اتصل بي هاتفياً من مدينة ريو دو جانيرو قبل إقلاع الطائرة مغادراً البرازيل، يشكرني على الحفلة الرائعة التي أقامها له الحزب تحت غطاء الجمعية السورية الثقافية
من مآثره الاخلاقية
يورد الأمين نواف حردان عن الشاعر الراحل نبيه سلامة التالي:
«كان أبياً مترفعاً عزيز النفس، يأبى بكرامته أن تُمتهن، مترفّعاً في تواضع، كريماً جواداً معطاءً، لا تدري شماله ما تعطي يمينه، يظلم نفسه ليعين سواه إذا كان محتاجاً يشكو حاجته.
حدّثني عن هذا صديق له قال:
كان قد قبض راتبه الشهري ذات مرة، عندما رأى امرأة فقيرة، تبدو على محيّاها مظاهر العوز والفاقة والجوع، تجرّ طفليها الهزيلين، تتقدم منه وتطلب منه مساعدة بذلّ وانكسار، فأعطاها نصف راتبه، أمام دهشتي واستنكاري ذلك منه، وعندما سألته:
- كيف تفعل هذا وأنت في حاجة؟
أجابني:
- الله بيدبّرني، أما هذه المرأة فقد تناساها الله والناس معاً..».
قالـــــوا عنـــه
الأديب الدكتور عبد اللطيف اليونس
«يمتاز شعره بالرقة والسلاسة.. ونعومة الكلمة، وحلاوة اللفظ، وعمق الفكرة، وجمال الصورة.
والشعر.. إنما هو كلمة قبل أن يكون معنى وديباجة، قبل أن يكون فكرة وصورة، قبل البحث عما تتضمّنه الصورة..
نبيه سلامة شاعر مترف العاطفة، منطلق الخيال، وقد وقف شعره – أكثر شعره – على الحنين إلى الوطن، والتغنّي بمناظره الفاتنة، وأمجاده الخالدة، وروائعه التي لا حدّ لها».
الأديبة نهاد شبوع
«مالت شمس الفقيد الغالي إلى المغيب، بعد أن شعّت خيوطها وخطوطها ألواناً ودفؤها في فضاء الوطن وآفاق الانتشار سنوات خصيبة.. إلى أن انقطع آخر خيط لها مع الحياة في شهر كانون الثاني 1994.
ولم يكن سفر هذه الشمس في متاهات الأرجاء ليحول دون رجوع ضيائها إلى النبع الأم، حيث انبثقت وترعرعت وأشرقت ليكون رقادها – الأخير – في مغنى الأماني «حمص» وفي عيون أبنائها وطيّ ضلوعهم، وانتظارهم وتأريخ أشواقهم، إذ لا بدّ من حمص «لنبيههم» مهما طال السفر وابتعد الترحال، تماماً كما لا بدّ من حمص لكوكبة أمثاله لم نذق أن نزرع فوق قبرها ياسمينة حمصية واحدة، كم تمنّتها يوماً.
هوامش:
القصيدة بعنوان «يا هلا»، إذ كنّا قررنا في البدء تسميتها هلا عند ولادتها، إلا أنّ الوالدة في بيروت تمنّت باتصال هاتفي أن نسمّي حفيدتها بِاسمها، ولأنّ الوالدة كانت غالية جداً وما زلت أذكرها كأنها حاضرة معنا، فقد أخذت والرفيقة إخلاص برغبتها وأطلقنا على «هلا» اسم إيلينا، لأنّ إيلان (اسم الوالدة) يصبح «إيلينا» في البرازيل.