بداية تحرير الجسم القضائيّ من أمراضه المزمنة…
المحامي معن الأسعد*
ما يحصل في السلطة القضائية اليوم يذكرنا بالقاضي الشجاع والعصامي، محمد مازح، الذي وضع قسمه وخوفه من الله عزّ وجل، قبل مصلحته الشخصيّة وفوق خوفه من غضب المنظومة السياسية الحاكمة، وتجرّأ بإقدامه على سابقة لم يعرف لها لبنان مثيلاً، عندما اتخذ قرار مواجهة السفيرة الأميركية التي تدخلت في الشأن اللبناني من خلال تصريحاتها الوقحة وتهديداتها اللاأخلاقية.
القاضي محمد مازح لم «يتعظ» من سقوط هيبة القضاء والدولة بموضوع العميل الصهيوني الجزار عامر الفاخوري، وأخذ قرار المواجهة مع الإدارة الأميركية مباشرة عبر سفيرتها في لبنان، ووجد نفسه وحيداً في حرب شاملة مع مجلس القضاء الأعلى، ومن خلفه المنظومة السياسية الميليشياوية الحاكمة، وتمّ استدعاؤه للمثول أمام التفتيش القضائي، فلم يجد بديلاً عن تقديم استقالته حفظاً لكرامته وتاريخه القضائي الناصع، فخرج من السلك القضائي رافعاً رأسه راضياً مرضياً.
القاضية غادة عون أعلنت الحرب على وكلاء الأميركي، فتبيّن للجميع بأنّ معركتها أصعب بكثير من مواجهة الأصيل، حيث «هبّت» المنظومة السياسية القضائية الطائفية والمذهبية الميليشياوية المالية الأمنية العسكرية والإعلامية تصبّ كلها في خانة الأميركي ومن يدور في فلكهم، و»شغلوا» محرّكاتهم وجهّزوا «أسلحتهم» استعداداً لمواجهة القاضية غادة عون، عندما ادّعت على الفاسد المفسد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها بعد.
وكذلك عندما أصدرت بلاغ بحث وتحرّ، بحق مدير عام مصرف «سوسييتيه جنرال» أنطوان صحناوي، هزت وتد عرش هذه المنظومة، وعندما داهمت مكاتب ميشال مكتف للصرافة وتحويل الأموال، وباتت على «قاب قوسين» أو أدنى من الاستحواذ على الصندوق الأسود الذي يدين سلامة والمصارف وحيتان المال والسياسة، ويثبت تهريبهم لأموال الشعب اللبناني.
اهتزت أعمدة هذه المنظومة بأكملها لتخوينها واعتبارها مجنونة متمرّدة فاقدة الأهلية!
الغريب العجيب أنّ قسماً كبيراً من الذين يدّعون «الثورة» وينسبون لأنفسهم لقب «المعارضة» وقفوا ضدّ غادة عون بذريعة انتمائها إلى تيار سياسي واستنسابيتها في فتح الملفات!
فسقطت أقنعتهم وانكشفت وجوههم وتعرّت حقيقتهم وتحوّلوا إلى رأس حربة للهجوم على غادة عون والدفاع عن المنظومة الفاسدة المفسدة.
ليس مطلوباً من أحد لأن يكون مع القاضية عون، لكن الواجب الوطني الإلزامي يفرض على الجميع أن يكونوا ضدّ المنظومة الحاكمة المسؤولة عن كلّ الكوارث والمآسي والأزمات والمعاناة التي تفتك بالوطن والشعب والدولة والمؤسسات.
غريب عجيب فعلاً أمر هؤلاء يقدمون بجهلهم أو أخطائهم أو خوفهم على دعم قوى السلطة من خلال انقسامهم وتشرذمهم ولا زالوا يدّعون أنهم أساس المعارضة.
الآن فإنّ مجلس القضاء الأعلى ومن خلفه السلطة السياسية الحاكمة يصدران قراراً تصعيدياً بحق غادة عون، غير أنّ الحقيقة يجب أن تُقال، إنّ المنظومة المالية هي جزء لا يتجزأ من المنظومة السياسية الميليشياوية الحاكمة، وأنّ الفاسد المفسد رياض سلامة يحظى بدعم أميركي وبغطاء أممي وخطوط حمر محلية طائفية، لكنه في الوقت ذاته يمثل تقاطع مصالح طائفي مذهبي أعلن عنه البطريرك الراعي، وبحماية سياسية مارونية شيعية سنية درزية كاثوليكية أرثوذوكسية أرمنية، وعذراً إذا نسيت أيّاً من هؤلاء.
ونواب رياض سلامة الماروني، الأربعة هم: شيعي وسني ودرزي وأرمني، والنائب العام التمييزي والمالي ورئيس ديوان المحاسبة ورئيس التفتيش القضائي ورئيس التفتيش المركزي جميعهم يتبعون مرجعياتهم الطائفية المذهبية. وهؤلاء هم بالذات مَن غضّ النظر عن سرقة المال العام والخاص، ما سمح لرياض سلامة وجمعية المصارف بالسطو على أموال المودعين من دون حسيب أو رقيب.
والآن بعد أخذ القرار بقطع رأس غادة عون، يبقى السؤال الأهمّ، ما هو موقف باقي القضاة مما يحصل؟
ألا يعلم هؤلاء بأنّ دورهم آت، واستفراد كلّ من يتجرأ منهم على التطاول على المنظومة والنطق بالحق.
ألا يعلمون أنه في سياق التطورات المالية والاقتصادية فإنهم سيكونون بين خيار الموت جوعاً أو مدّ يدهم للاستدانة أو لأكل الحرام؟
ألا يوجد أحد منهم يستشرف مستقبلاً سيقع حتماً يتمّ فيه الاعتداء عليهم وعلى عائلاتهم وأرزاقهم من كلّ فقير جائع ومريض، لن يجرؤ أحد منهم على التطاول على «زعيمه» ولن يجد سوى القضاة لتحميلهم مسؤولية ما يحصل لهم؟
إنّ تصريح نادي القضاة الأحرار الشرفاء يمكن البناء عليه، ويمكن أن يكون بارقة ضوء في نفق مظلم.
على القضاة الخروج من وحول الطائفية والمذهبية والاستزلام والمحاصصة، والقيام بثورة شاملة على مجلس القضاء الأعلى، والتصويب على مواقع النيابة العامة التمييزية والمالية وديوان المحاسبة والتفتيش المركزي والتفتيش القضائي وتحريرها، وإعادتها إلى حضن الوطن،
الى ما بقي من لبنان. وإلى شعب لبنان «العظيم».
وسيكون حينها كلّ لبناني شريف حرّ مستقلّ أمام القضاة ومعهم وخلفهم والى جانبهم.
على هؤلاء القضاة العودة إلى قسمهم ودينهم وربهم وضمائرهم، وأن يعلموا بأنّ إعلانهم «الحرب» ليس فقط لاستعادة سيادة واستقلال لبنان والسلطة القضائية، بل لأنها «حرب» استباقية للدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم وشعبهم ووطنهم، وما بقي من هيبتهم، وإلا راحت عليكم، والمصير المجهول ينتظركم…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أمين عام التيار الأسعدي.