استنساخ المعرفة واكتساب الجهل!
كلود عطية
حول الاستنساخ الأكاديمي في زمن الركود والجمود والانهيار الأخلاقي والقيمي، أثبتت نظرية دانينغ – كروجر المعرفية، أنّ الإنسان يميل إلى تعظيم مقدار معرفته مقارنة مع مواطن جهله، وغالباً ما يعتقد أنّ مقدار معرفته هو أكبر بكثير من حجمها الحقيقيّ، على عكس اعتقاده بنقاط ضعفه (المعرفيّة أو المهاريّة والفنيّة).
وإنّ الإنسان كلما تطوّر وتقدّم على سلّم المعرفة، أدرك حجم نقصه المعرفيّ، واعترف بتواضع معرفته وخبرته.
باختصار، كلّما انخفضت فرص الفرد في المنافسة واكتساب المعرفة الحقيقيّة، انخفضت قدراته ومؤهّلاته، مما يؤدّي إلى حالة من الجمود الفكري والوهم المعرفي.
وإذا جاز لي البناء على هذه النظرية المعرفية، من الواقع الافتراضي إلى افتراض الواقع والتعايش معه عبر منصات شرّعت الخيال العلمي المدمج بصور ملوّنة، ولقاءات عارية من الروح، وخطابات ومؤلفات منقولة حرفياً وبشكل مباشر من الماضي، الذي أراد قتل الحاضر باستنساخ شخصيّات فاقدة للصلاحية العلمية والأخلاقية، ولا تملك أيّة قضية إنسانية أو اجتماعية أو حتى وطنية، باستثناء قضية نشلها من القاع وإعادة تعويمها فوق مسرح العيش الفاقد للحياة… علّها تنجح في التمثيل على الذات…
يفترض بنا العودة إلى الأصول العلمية والبحثية العقلانية، التي تقارب الظاهرات الاجتماعية وغيرها من المسائل المعيشية والحياتية بموضوعيّة هادفة وموجهة، يحقق من خلالها الباحث إضافة علمية تستحق النشر والنقاش والحوار والنقد البناء.
هذه الإضافة العلمية لا يمكن لها أن تتحقق عبر الاستنساخ المعرفي والأبحاث التي تختصر الزمن، حيث لا يتعدّى توقيت إنجازها جلسة النقاش بنتائجها في الصالونات الافتراضية المفتوحة، المشرّعة أبوابها للمثقفين ولغيرهم من المتطفلين على الثقافة بأقنعة تفرض نفسها في الساحات الأكاديمية غير المنضبطة، حيث لا رقيب ولا حسيب على هذا الفلتان العلمي المقنّع بالمعرفة والثقافة والإنتاج العلمي.
هو زمن كورونا، حيث تزاوجت الغرف السوداء المغلقة بسبب الحجر الصحي والعقلي والنفسي، مع تلك الغرف التعليمية والثقافية الالكترونية، فكانت النتيجة ولادة عشرات المنصات المشبوهة في «عالم بات يُعرف بالعالم الرقمي، وما أتاحه من تبادل للمعرفة الوهميّة، والحقائق المشوّهة، القائمة على مغالطات منطقية فادحة – في جميع المجالات – فإني أقول: إننا بتنا نعيش المرحلة الثانية من نظرية دانينغ – كروجر وسأطلق عليها مرحلة (الجهل المُكتسب).
سنوات من النضال لكي يصل الإنسان الأكاديمي، أو السياسي، أو الحزبي إلى درجة محدّدة من المعرفة والثقافة التي يكتسب فيها معارفه وخبرته وموقعه ومواقفه وعلاقاته. وسنة واحدة من الجهل المكتسب والمقنع بالمعرفة بأوجهها المختلفة، والتي تتخطى في معظمها أخلاقيات الحياة، تبني معارف فطرية، مصلحيّة، تكون في معظمها مدمّرة ورجعية.
في استعارة الكهف، يقدّم أفلاطون تصوّراً لطبيعة الإنسان في علاقته بالمعرفة والجهل، فمسعى الفيلسوف الباحث عن الحقيقة يتمثل أولاً في أن يعي جهله، بوضع مسافة بينه وبين الأفكار المسبقة، ثم يتعلم التمييز بين ما هو واقعيّ وما هو وهميّ، ليسمو تدريجياً نحو عالم الأفكار، باستعمال المنهجيّة الجدليّة. وعندما يصف، في الكتاب السابع من «الجمهورية» الكهف الذي جعله استعارة لمبدأ المعرفة، يضع الجهَلَة في وضعية سجناء، مقيّدين في عمق الكهف، وقد حكم عليهم ألا يروا إلا ظلّ الواقع، من دون أن يعرفوا إنْ كان ذلك هو الواقع. هم في حالة جهل، سجناء أوهام لا يستطيعون تجاوزها، بسبب ذلك الجهل، أيّ عدم معرفة المرء العالم أو الأفكار معناه بقاؤه حبيس تصوّر خاطئ للعالم.
يبقى سجناء الأوهام في حالة دائمة من التوتر النفسي الذي يفرض التسرّع في تحقيق الذات، باستنساخ الإنجازات والبطولات وتسويقها على تلك المنصات الفاقدة للشرعيّة. كما يشرّع سجناء الجهل لأنفسهم تزوير الحقائق العلميّة،
مسلّمين أمرهم لما فرضه الواقع بالغدر، وبالتالي تحوّل العالم الذي ادّعى المعرفة إلى جاهل من أجل السلطة الراهنة، كما أنه ترك أمره للتجربة الآنية، فانقاد لمن يُسيّره، فلامس الفزع المزدوج بين المعرفة التي حرّرته، والجهل الذي أعاده إلى نسخته الأولى، يعيش في حقل تجارب الاستنساخ!