العلمانية كتحدّ للتعصّب الديني
} سامر عوض
بات مفهوم العلمانية من اللقم الشائعة التي يلزمها حيّز واسع من الأيديولوجيات السياسية في هذا العصر، حيث يستخدم كثر هذا اللفظ كمصطلح يتمّ التلطي وراءه يحمي كل من يتمترس بحماته. حيث ان موضة او موجة العلمانية تجوب الشرق من أقطابه وأقطاره، كمبرر علمي لاستمرار وجود أحزاب وأنظمة سياسية عدة.
العلمانية المشرقية هذه يتبناها حتى أكثر المتشدّدين الذين يؤمنون إشهار الشعارات ولو على حساب الجوهر.
لكن الزيف الذي يوسم هذه الأنظمة لجهة التنطح الزبائني بفصل الدين عن الدولة، لا ينكر مدى أهمية هذا الفصل كأحد الوجوه العملية علمياً للعلمانية. إذ إن من فوائد هذا الفصل مواجهة التعصب الديني كأحد الأدوات الآلية الدفاعية التي تنجم عن الدمج الهمجي للدين مع الدولة، فيختلط المبدأين في بوتقة واحدة، تذوب مجالات كل منها في الآخر من أجل نفسه، حيث يخسر الوطن جمالات الدين الأخلاقية، كما يعيق التسهيل في الإقصاء لاستمرار الطريق المزيد إلى قوام وطن قائم بذاته. بل يصبح الوطن مكوّناً من أفراد ينتمون لدينهم من خلال تعصبهم، ويرفضون وطنهم لوجود انتماء إيديولوجي يرجع كلّ إنسان إلى الجماعة التي يتكوّن منها دينياً، حتى لو كانوا خارج حدود الوطن، ويرفضون أترابهم في المواطنة، كما يولد انتماء جديد يرفض كلّ انتماء من أجل تكريس التعصب الديني كآلية دفاعية تهجم على الناس من خلال الانغلاق عنهم ليصبح الأمر منهجاً رفضياً يكرّس مزج الدين بالدولة عملياً، حيث يرفض الإنسان الآخر ويستبعد في محراب قلبه.
من خلال ذلك المناخ الانتقائي الفكري كيانياً، بات هذا الموضوع الجدلي الإشكالي يثير جدلية التعصب الديني، كرفض لله والإنسان الآخر (المختلف) في الوقت نفسه.
نشأت البشرية قبل الأديان السماوية وغيرها من الأديان، وهي ليست الأداة الحقيقية لتنظيم الكون في ما يحوي من مكونات بشرية، ونباتية، وحيوانية. بل كانت الخليقة على ما يرام قبل أن تأتي الأديان باختلاف أشكالها، لتقدم طرحها بشرياً بمفردات إلهية، وأحياناً العكس.
على الرغم من أنّ الله في وجوده المطلق أوسع طيفاً من الأديان، ولا بدّ أنه لا يحصر نفسه في بوتقتها أو حتى بدين معيّن، ويحترم البشر بمن فيهم من لا يودّه. لكن تأتي نظرة تعصبية منغلقة معينة، لا تقرأ الآخر على أساس قيمة قائمة بحدّ ذاته، أو على كونه مخلوقاً على صورة الله ومثاله، لكن تدرس الإنسان كمستوعب يضمّ بعض الأسفار لا أكثر ولا أقلّ.
الكافر لا يؤمن بالله، والمتعصب كافر لا يؤمن بالإنسان أيضاً، بل يؤمن بنفسه فقط. هذه نظرة قاسية، لكنها منطلقة من تجارب متراكمة. حيث ترى المتعصب دينياً، يكفر بالأديان الأخرى، ثم المذاهب التي لا ينتمي إليها، فالطوائف الأخرى، وهكذا تدور الحلقة حوله إلى أن تخنق عنقه ليصدق الإمام علي حين قال: (عدو الله إمام المتعصبين)، وبنظرة لاهوتية بسيطة لتفسير قول الإمام فالشيطان «المعاند»، هو من أراد أن يتفوّق حتى على الله فسقط كشهب نار!
التعصب خطير؛ لأنّ صاحبه يعصب عينيه لأنه لا يودّ أن يرى أحداً سوى نفسه، لكن تكمن شدة خطورة التعصب الديني، في أن صاحبه يناطح السماء ويفرز أهل الأرض.
ليس الحديث هنا، للكلام عن الحروب التي خلفها التعصب الديني؛ لأنها ليست سوى جهاز تنفيذي لأجندة وجودية في واحد من جوانبها تقتحم السياسة وتستخدم التعصب الديني كستار ومعبر ومبرّر جذاب يقبله كثيرون ويرزح تحت نيره آخرون ليس لقناعتهم بل لأنّ معارضة ذلك يرتب ويلاً وثبور وعظائم أمور.
قال يوماً محافظ بيروت السابق زياد شبيب: (في الوظيفة
العامة… لي رب، ولكن ليس لي دين!)، هذه نظرة واعية لوضع الرب في قلبنا ليفعل فينا، وألّا يوضع الدين في قبضتنا كي نفعل به ما نحن نشاء.
التعصب الديني إذن، كفر بالله لأنّ خليقته يجسدوه، ورفض صريح وضمني للناس لأنهم لا يشبهون المتعصب، وهو كإبريق الزيت الذي يقع على الأرض ويصعب مسحه، وكل رجلّ دين يسعى ليكرس التعصب الديني سينقلب السحر عليه، عاجلاً أم آجلاً. لا سيما أن المتعصب ينتمي لنفسه وليس لدينه، والتعصب آلية دفاعية يهاجم بها المتعصب وينقض على الناس وليس معتقداتهم فقط، وقلة هم الذين يحوزون ملكة التميز بين المختلف وفكره. في هذا المجال، أذكر جيداً مناجاة المطران جورج خضر (ليسوع النائم في ظلمة الأديان)؛ كي يقوم وينفع الناس وينفخ فيهم نفحة روح المحبة؛ لأنها الأساس الذي ينطلق منه كلّ صلاح، وينصب فيه كلّ فلاح!