الكلمة وفقه الأولويّات!!
د. محمد سيد أحمد
يعتمد فعل الكتابة على الكلمة، لذلك فعلى من يقوم بهذا الفعل أن يدرك أهمية الكلمة وتأثيرها. فالكلمة مسؤولية وشرف، وهنا يمكن الاستشهاد بأروع ما كتب عن الكلمة في حوار بين الوليد بن عتبه رسول يزيد بن معاوية للإمام الحسين بن علي من أجل أخذ البيعة، وذلك في مسرحية الحسين ثائراً التي كتبها عبد الرحمن الشرقاوي، حيث اعتبر الوليد البيعة مجرد كلمة فجاء رد الحسين: «أتعرف ما معنى الكلمة؟ مفتاح الجنة في كلمة، دخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة لو تعرف حرمة، زاد مذخور، الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور، بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشريّ، الكلمة فرقان بين نبيّ وبغيّ، بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور، ودليل تتبعه الأمة، عيسى ما كان سوى كلمة، أضاء الدنيا بالكلمات وعلّمها للصيادين، فساروا يهدون العالم، الكلمة زلزلت الظالم، الكلمة حصن الحرية، إن الكلمة مسؤولية، إن الرجل هو الكلمة، شرف الرجل هو الكلمة، شرف الله هو الكلمة».
إذا كانت هذه هي الكلمة فعلى من يعمل بفعل الكتابة أن يدرك مسؤولية الكلمة التي يكتبها، وعليه أن يتحرّى الدقة في ما يكتب، وعليه أن يدرك أن هناك فقهاً للأولويات عندما يفكر في ما يجب أن يكتب، فالكتابة ليست كلمات مرصوصة في موضوع أو قضية. فالموضوع أو القضية يجب أن يكون ذات أهميّة للجمهور، خاصة إذا كنت تكتب للرأي العام. قد يقول قائل لماذا كل هذا الإسهاب في المقدمة، وهنا أقول لأنني وضعت في حيرة شديدة هذا الأسبوع بين عدد من القضايا والموضوعات التي تستحق الكتابة. وكان الموضوع الأول ما أثير عبر مواقع التواصل الاجتماعي من جدل حول الدراما الرمضانيّة، والذي حُسم بصرخة مدوية أطلقتها الأستاذة الدكتورة أميرة العربي الخبير الاجتماعي والأمني عبر حسابها الشخصي على موقع الفيسبوك «أين الرقابة أوقفوا فوراً.. لحم غزال.. وملوك الجدعنة.. لا يليق بالمصريين». وجاءت صرختها محقة فما يبث عبر المسلسلين تدمير للقيم الأخلاقيّة في المجتمع المصري والعربي.
أما الموضوع الثاني فهو إعلان مجلس الشعب السوري عن فتح باب الترشّح للانتخابات الرئاسية السورية، ثم إعلان ترشّح السيد الرئيس بشار الأسد، وبالطبع هذا الحدث صفعة مدوّية على وجه كل أعداء سورية، خاصة أن إعادة انتخاب الرئيس بشار الأسد مطلباً شعبياً ليس سورياً فقط، بل مطلب عربي وعالمي من كل الشرفاء في العالم، ومن كل من يقدّر ويعرف قيمة الاستقلال الوطني، فالرجل جسّد بصموده ونضاله ودفاعه عن وطنه أيقونة حقيقية للعزة والشرف والكرامة، ولولاه لقسمت سورية لعدة دويلات، وما استطاعت أن تحافظ على وحدتها.
أما الموضوع الثالث فهو الصاروخ السوري – من الجيل الثاني طراز سام 5 – الذي انطلق عبر الدفاعات الجوية السورية في محاولة للتصدّي لمقاتلة إسرائيلية كانت تستعدّ للهجوم على أهداف سورية من خارج الحدود كانت تحلق فوق الأراضي المحتلة، واستطاعت الطائرة الإسرائيلية تجنّب الصاروخ الذي أكمل مساره لمسافة 250 كم مخترقاً القبة الحديدية المزعومة ليسقط قرب مفاعل ديمونة، وهو ما أثار الذعر والرعب داخل الكيان الصهيوني، لأن الصاروخ أصبح رسالة للعدو بأن الأراضي المحتلة كلها باتت تحت مرمى الصواريخ السورية، وهو ما يعني تغيير قواعد الاشتباك، وتفكير العدو الصهيوني ألف مرة قبل محاولة الاعتداء على الأراضي السورية.
أما الموضوع الرابع فهو الانتفاضة الفلسطينية المقدسية التي انتفضت دفاعاً عن عروبتنا كردّ فعل لمسيرة صهيونية رددت هتاف «الموت للعرب»، وقام العدو الصهيوني بالعدوان على الشباب العربي الفلسطيني المنتفض دفاعاً عن شرف وكرامة الأمة النائمة والمهرول بعض حكامها للتطبيع مع العدو، وإصابة أكثر من مئة شاب في المواجهات المقدسية.
أما الموضوع الخامس، فهو موضوع سد النهضة فعلى الرغم من أهمية الموضوعات والقضايا السابقة إلا أن فقه الأولويات لدينا يؤكد أن قضية سد النهضة تفرض نفسها مجدداً أولاً وثانياً وعاشراً، فخلال هذا الأسبوع اندلعت الاضرابات في إقليم بني شنقول حيث سيطر ما يقرب من 25 ألف مسلح على أراضي سد النهضة، وهو ما يعني أن عملية الملء الثاني للسد سوف تتعطّل بعد أن أصبح السدّ خارج سيطرة حكومة آبي أحمد المتعنتة مع مصر والسودان في المفاوضات، وهو ما يفتح مجالاً لامتلاك أوراق ضغط جديدة على إثيوبيا ومن يدعمها للعودة مرة أخرى لطاولة المفاوضات لإنجاز اتفاق دوليّ ملزم يضمن الحصص التاريخية لدولتي المصب.
لذلك لا يمكن وفقاً لفقه الأولويات أن نستبعد ونهمّش قضية سد النهضة، لتحل محلها قضايا أخرى، بل يجب على مَن يعرف قيمة الكلمة أن يضعها في بؤرة التركيز والدلالة، خاصة إذا ما تأملنا نشرات البنك الدولي الخاصة بنسب الاعتماد على نهر النيل في تأمين الاحتياجات المائيّة لدول الحوض، حيث تأتي (مصر في المقدّمة بنسبة 96.4 / تليها رواندا بنسبة 15.4 / ثم السودان بنسبة 11.9 / ثم كينيا بنسبة 6.6 / ثم بوروندي بنسبة 2.8 / ثم إثيوبيا بنسبة 2 / ثم تنزانيا بنسبة 1.3 / ثم أوغندا بنسبة 0.3 / وأخيراً الكونغو الديمقراطية بنسبة 0.08). وبتأمل هذه النسب والمعطيات يتضح أن غالبية دول حوض النيل بما فيها السودان لديها بدائل في الحصول على المياه سواء من الأمطار أو المياه الجوفيّة، على عكس مصر التي تعتمد بشكل مطلق على مياه النيل وأي نقص في حصتها التاريخيّة لا يمكن تعويضه، لذلك لا عجب أن يقول الفرعون القديم لجنوده «فليهرع الجنود لإنقاذ النيل، وترعى وصوله إلى معشوقته مصر»، ونحن سنظلّ نردد فليهرع جيشنا المصري العظيم، ليمنع أي عائق لجريان النيل ليوصله إلينا، فهو شريان حياة المصريين.
اللهم بلغت اللهم فاشهد.