عيدٌ حزين لعمال بلا عمل
} زياد كاج*
حلّ الأول من أيار هذه السنة ثقيلاً حزيناً على عمّال وفقراء العالم، وتحديداً على عمال العالم العربيّ ودول العالم الثالث وما دونه. وعيد العمل والعمّال في لبنان حالة خاصة جداً هذا العام: عيد بلا عمل؛ بلا وظائف، بلا كرامة.. جسد بلا روح! العيد اُفرغ من معناه. الأجواء قاتمة والأفق مسدود والجيوب فارغة والأمعاء خاوية؛ والعامل والموظف عندنا – خاصة الشباب والشابات – يستميتون في الحصول على فرصة عمل أو وظيفة، ولو كانت دون المستوى التعليمي والاجتماعي. معظم طلاب وطالبات الجامعات يعملون في المقاهي والمطاعم، عدا عن الذين تركوا البلد وهجروا مقاعد الدراسة ولم تعُد الشهادة طموحهم.
يشكل لبنان حالة مرضية خاصة في غرفة العناية الفائقة على خريطة «شبه وبالات الأوطان» اليوم. برميل بارود اجتماعي قابل للاشتعال في أية لحظة. كثر من المحليين والأمنيين صاروا متوجسين من شهر أيار. يحكون جباههم كثيراً وهم العارفون بالحل والقرار ليس بيدهم. لن يمر الشهر على خير! العمال وأصحاب الدخل المحدود والفقراء عندنا عالقون تحت صخرة ضخمة من المشاكل والأزمات المتراكمة: نسبة عالية من البطالة المتصاعدة، انهيار متسارع للعملة الوطنيّة، غلاء فاحش، هموم معيشية يومية تفرخ كما تبيض الدجاجة البلدية كل صباح، جائحة كورونا وما ترتّب عنها من أزمات، هلع في القطاع المصرفي، تكشّف يومي لحال الفساد العامة كأننا في حفلة كشف وفضح متبادل للغسيل الوسخ، وأزمة سياسية متفاقة تجعل الناس يعون أن القرار السياسي في البلد عالق في رمال متحرّكة ومفاتيحه في بلاد الفودكا والهامبرغر والزعفران والتمور وتركة أتاتورك.
أعجب لصبر عامة الناس والفقراء في هذا البلد. يدهشني قبولهم للوضع وتعايشهم مع هذا الواقع الذي ما كان سيتحمله شعب لو امتلك عناصر ومكوّنات اللحمة والوطنية والهوية الجامعة. ينام أصحاب القصور وملوك الطوائف عندنا بقلق هذه الأيام. هؤلاء يعرفون أن الطائفية والمذهبية هي أكثر فعالية لحماية مصالحهم وممتلكاتهم من أقوى شركة أمنية عالمية يمكن أن يستخدموها لحماية قصورهم. أوليست المحاصصة الطائفية مطبّقة على كافة مرافق وأجهزة الدولة؟
مسكين أنت أيها العامل اللبناني. لا عيد لك ولا من يحزنون ولا من يفرحون. حتى الحزب الذي يرفع شعار «يا عمال العالم اتحدوا» هو متواطئ مع السلطات الطائفية الحاكمة ولا يلعب الدور المطلوب منه لحماية العمال والكادحين. رحمة الله عليك يا لينين.. يا صاحب النية الطيبة والإرادة الصلبة وأبو العمال الحقيقيّ. رحمة الله على تشي غيفارا… شهيد غابات بوليفيا والشيخ إمام يغني: «غيفارا مات.. غيفارا مات». نعم.. ماتت قضية العمال في العالم منذ مئات السنين. تفكك الاتحاد السوفياتي، ولد القيصر من جديد، عاد الكافيار سيد الموائد والسيكار الكوبي يرقص بين أصابع أصحاب الكروش والثروات الضخمة.
أذكر أنني زرتُ قلعة بعلبك مراراً في بقاعنا الغالي والجميل والمعطاء. فيّ عشق للمدينة من رأس العين الى السوق العتيق الى القلعة. لطالما أدهشتني لضخامتها وعلو عواميدها وأبنيتها التي عاندت التاريخ وعوامل الطبيعة. في إحدى الزيارات برفقة العائلة، صُودف وجود دليل معنا شرح أدقّ التفاصيل عن كل حجر وكل نقش ورسم. عندما وصلنا، ومعنا وفد يضمّ أجانب، الى الشير الخلفي للقلعة المطل على غابة كبيرة من أشجار عالية جداً.
« من هون كان ينتحر العبيد ليرتاحوا من الظلم والتعب خلال بناء القلعة». أرعبتني تلك الجملة وأخذت أتخيّل المشهد: أن يصل الإنسان إلى رمى نفسه من هذا المكان الشاهق؛ بائعاً نفسه وروحه للوصول الى الراحة الأبدية».
حضرتني قصيدة الشاعر طلال حيدر «وحدن» التي غنتها فيروز بكلماتها الرائعة والمرهفة: «وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان.. وحدن بيقطفوا وراق الزمان… وحدهن وجوهن وعتم الطريق..»
وعمال لبنان هم اليوم وكما كانوا.. «وحدهن»، مثل مقاومي قصيدة حيدر، في مواجهة كل أزمات البلد. هم وحدهم والاتحاد العمالي العام في نومة أهل الكهف. هم وحدهم وفي لبنان أكثر من 600 نقابة و50 اتحاداً. نقابات فرّخت حسب الانتماء الطائفي والمذهبي. نقابات تحوّلت الى كونفدراليات طائفية بينها والعمل النقابي طلاق ونسبة المنتسبين منخفضة جداً. مُضحك مبكٍ الواقع النقابي عندنا. أقترح إنشـــاء نقابة العاطلين عن العمل، أو نقابة العمال الموارنة، ونقابة العمال الشيعة، ونقابة العـــمال السنة… الخ! وأيضاً نقابة «السماسرة»، ونقابة «البلطجية» و»نقابة الحرامية» و»الاتحاد العام لمزارعي الفجل» و«نقابة «مهرّبي المخدرات في الرمان» و»مهربي المواشي المدعومة في الطائرات».
الفوارق الاجتماعية والطبقية وُجدت لتبقى. حتى في الديانات السماوية والوضعية يوجد شيء من تكريس للطبقية. ظاهرة الغنى والفقر مستمرة ما استمرت الحياة على هذا الكوكب الصغير الكثير المشاكل. «المعتّر بكل الكون ديما هوي ذاتو»، يقول عظيمنا وكبيرنا زياد الرحباني. الفقير دائماً يدفع الثمن أكثر من غيره: في الحروب والكوارث الطبيعيّة والأزمات الاقتصادية. ومن صفوف الفقراء يخرج أنبياء وعلماء وفنانون وقادة عسكريون وفلاسفة وأيضاً أشخاص يغيّرون مجتمعات برمتها.
للتذكير فقط أقول إن عيد العمل أو العمال جاء نتيجة ثمرة نضال وتضحيات عمال مدن أميركيّة في القرن التاسع عشر. فبفضل نضال عمال مدينة شيكاغو وتحديداً «حركة 8 ساعات» سنة 1886 خُفضت ساعات العمل في اليوم من 10-16 ساعة الى 8 ساعات وأصبحت عطلة نهاية الأسبوع يومين بعد أن كان العمل يشمل 6 أيام في الأسبوع. وقد انتقلت عدوى الاحتجاجات في تلك السنة الى كاليفورنيا وتورونتو في كندا.
العمل مقدّس؛ وهو فعل إيمان بالحياة والوجود وبقيمة الإنسان ووعيه لذاته وإنتاجيته ومساهمته في حركة مجتمعه. من لا عمل له، لا قيمة له على المستوى الشخصي. القعود انكسار لكبار السن. بداية النهايات. وعندنا في لبنان شباب وشبان «أُقعدوا» عن العمل وفي الظاهرة خطورة بالغة. شباب وشابات قيل لهم إن عدوك هو الآخر المختلف عنك ديناً وعقيدة. وإن الحلول تأتي فقط من السماء! جيل بكامله أنخرط في لعبة الطوائف المنغلقة على نفسه ليكتشف فجأة أن من نهب البلد وسرق ثرواته وأغلق أمامهم أبواب الغد هم أنفسهم أصحاب تلك الوعود والثروات والقصور الذين زادوا مؤخراً من مصاريفهم على الحراسة الأمنية بشكل لافت. صارت مخداتهم قاسية ولا تجلب سوى كوابيس تشبه مسلسل «ثورة الفلاحين».
اشتغلت في شبابي أشغالاً عدة. لا ندم عليها لأنها كانت محطات تعلمت منها. بعت المناقيش على رصيف الروشة، بعت علب الطون أمام مدخل بنايتنا مع بداية الحرب، اشتغلت مساعد في محل لبيع الجزادين النسائيّة وفي محل لبيع المجوهرات، عملت ناطور بناية محل أبي عندما لازم الفراش، أعطيت دروساً خصوصية، اشتغلت «اوفيس بوي»، عامل في مشغل لصنع أكياس ورقية تحت الأرض، جربت الصحافة المسموعة والورقيّة، جرّبت التعليم… وبقيت لي أمنية: أن أعمل في ورشة البناء !
أراقب كل يوم ورشة عمار لبناء سكني يرتفع على بعد عشرات الأمتار من الشرفة الخلفية لمنزلي الكاشفة لأوتوستراد السيد هادي. قبل بداية المشروع، كنت أرى جزءاً يسير من الطريق وحركة السيارات والدراجات النارية تخف مع حلول الليل. في الجهة الشرقية للطريق يقع مبنى ضخم وحديث يضم مكاتب للقرض الحسن. في المبنى تقطن ممرضة تزوّجت من شخص على أساس أنه ضابط في الجيش. لاحقاً، اكتشفت أنه يعاني من عقدة نقص تجاه أخيه الضابط الحقيقي وكان يرتدي البذلة تنكراً. وهي الممرضة التي كانت تطمح بالزواج من طبيب. تبين لاحقاً أن مهنة الزوج هي موظف فندق! أكلت المسكينة الضرب وقبلت بنصيبها. فرب ضارة نافعة.
أراقب كل يوم العمال السوريين يعملون بنشاط فائق من شرفتي الخلفية. منذ الساعات الأولى للنهار يتحركون في كل الاتجاهات. المشرف عليهم – «المعلم» – يعطي التعليمات. تزداد حركة نشاطهم عند حضور مهندسي الشركة للإشراف والتدقيق. مع ارتفاع المبني، غاب الأوتوستراد عن نظري ولم أعد أرى واجهة «القرض الحسن» ولا مبنى الممرضة زوجة «الضابط». العمّال يستخدمون العدة نفسها من أخشاب وأعمدة حديد ودعم وينقلونها معهم كلما أرتفع المبنى. من ملاحظتي اليوميّة، اكتشفت مدى اهتمام المعلم بالعواميد الأساسية الداعمة لكل طابق قبل صبّها. يستخدم آلة يضعها على العامود كي يتأكد من سلامة شغل فريقه. المهم الاستقامة وأن تكون الزاوية 90 درجة (هكذا حللت).
أخجل أن أقول «كل عيد عمل وأنتم بخير» في بلد لا عمل فيه ولا كرامة ولا راحة بال ولا غد. رمضان هذا الشهر كان «بخيلاً» على الفقراء، والفصح المجيد بجمعته الحزينة كان أكثر حزناً… على أمل أن تعود الرحمة الى قلوب حكام البلد و»قيامة» وطن قابل للحياة والاستمرار؛ رغم أنني أشك في ذلك شك اليقين.
*روائي من لبنان.