القدس لأهلها حقيقة فوق التطبيع المشين والاعتراف المدّعى
العميد د. أمين محمد حطيط _
مباشرة بعد انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979، بادر الإمام الخميني مرشد الثورة وباعث النهضة الإسلامية في إيران، إلى إغلاق السفارة “الإسرائيلية” في طهران وإقفال سفارة إيران في تل أبيب وسحب الاعتراف الإيراني بـ “دولة إسرائيل” المزعومة، ثم فتح سفارة “دولة فلسطين” في طهران، وإطلاق يوم القدس العالمي ليكون تاريخاً موحّداً تؤكد فيه الأمة على حقائق ثلاث تتصل بالقدس وطبيعة وضعها لكونها محتلة، وبأنها واجبة التحرير، وبأنّ الأمة كلها مسؤولة عن عملية التحرير، كلً وفقاً لما يقدر ويستطيع. والأهمّ من هذا هو التأكيد على أنّ فكرة التحرير حيّة وتتنامى وتعاكس ما يُراد لها من خنق وتغييب.
بيد أنّ إيران الإسلامية، التي قامت بهذا ورغبت بتحقيقه وشكلت فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني لتحقيقه ودعت إلى تشكيل جيش العشرين مليون من أجل التحرير، صدمت بمواقف سلبية من دول عربية وإسلامية ولم تجد إلى جانبها حقيقة في دعم هذه الفكرة الوحدوية وتضع اليد باليد والسير، كتفاً بكتف لتحقيقها إلا الدولة السورية بقيادة الرئيس حافظ الأسد، وجماعات من الشعوب رأت في السلوك الإيراني بارقة أمل على درب استعادة فلسطين. أما الدول في معظمها فقد تكتلت ضدّ إيران لتدعم حرباً شنّت عليها من غير أن يكون هناك سبب منطقي يبرّر الحرب والدمار.
لقد شكلت قضية فلسطين قضية انقسام حادّ في الإقليم، وقضية صراع بين مشروعين، مشروع إقليمي تحرري يقوده ما بات يُعرَف بمحور المقاومة، ومشروع استعماري استتباعي تقوده أميركا ويلتحق به معظم الدول العربية في آسيا والذي يرمي إلى تثبيت “إسرائيل” في الإقليم بصفتها المكوّن القيادي فيه الذي يعمل لتحقيق مصالحه ومصالح الغرب بقيادة أميركا على حساب شعوب المنطقة.
وفي حمأة الصراع هذا ومع الاختلال في موازين القوى شنّت أميركا حروباً متتالية على المنطقة بصيغ وأساليب مختلفة، كانت آخرها الحرب الكونيّة على سورية ومحور المقاومة والتي طالت لأكثر من عقد من الزمن، وكانت أميركا مطمئنة إلى أنّ الحرب ستحقق أهدافها وتطيح أعداءها وتثبت “إسرائيل” في المنطقة كما خطّط لها، والأفظع من ذلك أنّ ترامب الرئيس الأميركي السابق وفي السنة العاشرة للحرب الكونية تلك تصرف وكأن عدوانه حقق أهدافه فأطلق ما أسمي “صفقة القرن” التي استبقها بموقف سياسي يعتبر فيه أنّ القدس عاصمة لـ “إسرائيل” (وهو تعبير من الأخطاء المتداولة، فالقول بـ “الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل” هو تعبير خبيث خاطئ يريد من أطلقه القول إنّ فكرة “القدس عاصمة لإسرائيل” هي حقيقة وعلى العالم أن يعترف بها بينما الحقيقة عكس لك لأنّ القدس أرض محتلة ومغتصبة واحتلالها جريمة وعلى العالم أن ينكر هذه الجريمة ويدينها والقول بانّ لـ “إسرائيل” عاصمة هو تزوير وكذب وتعمية على الحقيقة، والتعبير الأصحّ هنا هو “الادّعاء بأنّ القدس عاصمة لإسرائيل”).
أما ما أسمي صفقة بذاتها فهي أيضاً تعبير مزوّر لانتفاء الطرف أو الأطراف الثانية فيه، لأنّ الحقيقة هي فعل فرض من جهة على جهة أخرى من أجل تحقيق مصالح طرف ثالث، وهي بهذا المفهوم لا تمتّ إلى مفهوم العقد والصفقة والاتفاق بصلة، وهي عمل بإرادة منفردة يسلب حقوقاً من طرف أو أطراف ويهديها لآخر، و”إسرائيل” هي المستفيد الوحيد من ذلك.
وفي المضمون تضمّنت الصفقة المدّعاة إجراءات تدابير ترمي إلى إسقاط صفة المحتلة عن الأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية، واعتبارها أرضاً لـ “إسرائيل”، ثم أسقط حق العودة للفلسطينيين المهجرين قسراً من بيوتهم منذ العام 1948، وتهديد من تبقّى منهم على أرض فلسطين التاريخية بالترحيل والطرد خارج بيوتهم، ما يؤدّي إلى تصفية القضية الفلسطينية لمصلحة “إسرائيل” كلياً، هذا من جهة ومن جهة ثانية تزامنت الصفقة الإجراميّة مع رزمة اتفاقات أسميت “اتفاقات أبراهام” التي فرضت بشكل اتفاقيات إذعان على دول عربية سيقت لتستسلم لـ “إسرائيل” في الأشهر الأخيرة من ولاية ترامب حتى وصل عددها إلى أربع (الإمارات والبحرين والسودان والمغرب) أضيفت إلى مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية التي سبقت إلى الاعتراف بـ “إسرائيل”، والتي فهمت الاتفاقيات بأنها تنازل ضمني عن حقوق الفلسطينيين في أرضهم وكيانهم السياسي المستقلّ، تنازل يتيح لها تصفية القضية أولاً وتسيّدها على المنطقة ثانياً، وفقاً لما خططت منذ عقود في ما أسمته “الشرق الأوسط الكبير”.
بيد أنّ خطط معسكر الاستعمار والعدوان كانت في اتجاه ردود الفعل الدفاعية من محور المقاومة ونتائج تلك الردود كانت تأتي في سياق مناقض، ما فرض واقعاً لم يكن المستعمر يتوقعه، حيث إنّ الحروب المتنوّعة الأشكال لم تكسر إرادة الشعوب ولم تدفعها للاستسلام كما تمّ التخطيط له، وإنّ مسارات التطبيع المدّعى (وهو فعل فرض استسلام وإذعان أيضاً معاكس لمفهوم ودلالة الكلمة ومصطلحها) التطبيع لم ولن يجلب لـ “إسرائيل” أمناً تستميت من أجل فرضه لصالحها ولا سلاماً تتظاهر بأنها تسعى اليه، أما محاولات شطب القدس من الملف فإنها لم تجد نفعاً في ظلّ سواعد الشباب المقدسيّين الذي جعلوا كلّ يوم من أيامهم يوماً للقدس وتحدّوا بقبضاتهم المرفوعة كما وبصدورهم العارية يواجهون وحشية الاحتلال وأفشلوا مخططات التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وأفهموا العدو بأنّ العالم كله لو ادّعى بأنّ القدس لـ “إسرائيل” فإنّ الادّعاء لم ولن يغيّر الحقيقة.
وفي نظرة سريعة على المشهد المتشكّل يمكن للمرء المحايد والمتابع أن يتقّين مما يلي:
1 ـ فشل محور وتكتل الاستعمار من فرض خططه الرامية لاستسلام المنطقة، في مقابل قوّة مركبة أبداها محور المقاومة دفاعاً عن المنطقة وشعوبها وحقوقها، انه فشل استراتيجي لا تخفيه ولا يمكن أن تطمسه الغوغائيات الإعلامية وسياسات الكيد والإجرام الإرهابي بشتى وجوهه وصنوفه.
2 ـ فشلت عمليات التطبيع في إرساء الأمن المطلوب لـ “إسرائيل”، وإذا كانت عمليات التطبيع في موجتها الأولى لم تحقق لـ “إسرائيل” ما توخته منها فإنّ موجة التطبيع المدّعى الثانية لم تغيّر الحقيقة.
3 ـ دخلت المنطقة بعد الفشل في عاصفة لا بل في إعصار مرتدّ يحمل من سبق وأذعن واستسلم على مراجعة مواقفه منها إما بتجميد مسارات سياسته السابقة أو الانقلاب عليها والسير عكسياً خلافها.
4 ـ بروز موجات شعبية تحتضن القضية الفلسطينية وترسل بمواقفها رسائل مفادها أنّ الأنظمة المستسلمة مهما اعتقدت أنّ لها من قوة فإنها لن تقوى على منح “إسرائيل” ما أرادت.
أما إجمال الفكرة للمشهد فهي أنّ معسكر العدوان اندحر وبدأ يتفكك وراح كلّ مكوّن من مكوّناته يبحث عن علاقة أو حبل نجاة يحدّ خسائره ويضمن مستقبله في غير الطريق التي سلكها في سياق موجات العدوان التي ارتكبها.
وعليه نقول إنّ من ظنّ حلم تحرير القدس ومن ثم فلسطين انه حلم – سراب يتبيّن له اليوم وبالحسّ الملموس أنّ ظنه هو هو السراب الذي ستمحوه أشعة الحقيقة واليقين المنبئ بأنّ القدس عائدة لأهلها وأنّ موجات العدوان وقطعان المستعمرين إلى زوال… من يدقق في حال العدو اليوم ويراقب صاروخ ديمونا يدرك مغزى ما نقول.
*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي