بداية مرحلة جديدة في المنطقة: تهدئة الصراعات وتسويات تكرّس موازين قوى جديدة لمصلحة محور المقاومة
} حسن حردان
هل بدأت المنطقة الدخول في مرحلة جديدة تتسم بالتسويات وتجميد وتهدئة الصراعات، وربط نزاع حول القضايا الخلافية، انطلاقاً من النتائج التي أسفرت عنها الحروب التي ضربت المنطقة، من الغزو الأميركي للعراق، والحرب الصهيونية الأميركية، بغطاء رجعي عربي، على لبنان عام 2006، الى الحرب الإرهابية الكونية التي قادتها أميركا ضدّ سورية، ووصولاً إلى الحرب الأميركية السعودية على اليمن، وتشديد الحصار على الجمهورية الإسلامية الايرانية المترافقة مع الحرب الأمنية والتهديدات بشن الحرب العسكرية.
هذا السؤال يستمدّ طرحه من الحركة السياسية النشطة في أكثر من اتجاه على خلفية التوجه الأميركي الجديد لإدارة الرئيس جو بايدن في حسم خياراتها بالعودة الى الاتفاق النووي وسحب القوات الأميركية من أفغانستان وتخفيض الوجود العسكري الأميركي في المنطقة لمصلحة التركيز على مواجهة التحديات الداخلية في الولايات المتحدة على أكثر من صعيد، وكذلك مواجهة التحدي الذي يمثله الصعود المتواصل في قوة الصين اقتصادياً وعسكرياً وتنامي نفوذها في العالم على حساب النفوذ الأميركي… ومواجهة تنامي قوة وحضور روسيا على الساحة الدولية.
لقد جاء هذا التوجه الأميركي في إعادة النظر في السياسة الأميركية التي كانت متبعة في المنطقة، بناء على قراءة أميركية للنتائج السلبية التي أسفرت عنها الحروب الأميركية الصهيونية الغربية العسكرية المباشرة والإرهابية غير المباشرة، والتي أخفقت في تحقيق أهدافها في الساحات التي استهدفتها:
أولاً، فشلت الحرب الإرهابية الكونية على سورية في إسقاط الدولة الوطنية المقاومة برئاسة الرئيس بشار الأسد وبالتالي لم تتمكن من تحويل سورية إلى بلد تابع للهيمنة الأميركية.
ثانياً، أخفقت واشنطن في القضاء على قوى المقاومة العراقية، واستعادة الهيمنة على العراق تحت غطاء محاربة تنظيم داعش الإرهابي ذات الصناعة الأميركية..
ثالثاً، فشلت الحرب الأميركية السعودية التي دمّرت اليمن في القضاء على حركة أنصار والقوى الوطنية التحررية الرافضة للهيمنة الاستعمارية، وبالتالي لم تنجح واشنطن والرياض في استعادة السيطرة على هذا البلد العربي ذات الموقع الجغرافي الهامّ الواقع على البحر الأحمر وبحر العرب وباب المندب، والذي يحوز على ثروات هامة من النفط والغاز.
رابعاً، فشلت حرب 2006 في سحق المقاومة في لبنان، كما أخفقت حرب الحصار والضغط الأميركي الاقتصادي المالي على لبنان في احداث انقلاب سياسي أميركي على المعادلة السياسية، وبالتالي فشلت في إخضاع لبنان وعزل ومحاصرة المقاومة، أو فرض الشروط الأميركية بنزع سلاحها الذي يقلق “إسرائيل” ويردعها، ولم تتمكّن من فرض اتفاق لترسيم الحدود البحرية يحقق الأطماع الصهيونية في ثروة لبنان من نفط وغاز.
خامساً، فشلت “إسرائيل” في القضاء على المقاومة في قطاع غزة أو إخضاع الشعب العربي في فلسطين المحتلة وفرض الاستسلام عليه، لتصفية قضية فلسطين وفق صفقة القرن الأميركية “الإسرائيلية” التي ولدت ميتة بفضل الموقف الفلسطيني الموحد في رفضها.
سادساً، فشلت الولايات المتحدة في النيل من موقف وتماسك الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في رفض الخضوع للشروط الأميركية، وتمكّنت طهران من إحباط وإجهاض أهداف الحصار الأميركي والحرب الأمنية… وباتت أكثر قوة ومتعة.
سابعاً، وأخيراّ فشلت الولايات المتحدة في تنفيذ مخططها لإعادة رسم خارطة المنطقة وفرض الهيمنة الكاملة عليها، وتمكين “إسرائيل” من تصفية قضية فلسطين، وإعادة تعويم مشروع الهيمنة الأميركي الأحادي في المنطقة والعالم…
من الطبيعي أن تؤدّي نتائج كلّ هذا الفشل والإخفاق الأميركي، الآنف الذكر، الى مفاقمة مأزق سياسة الولايات المتحدة وتراجع نفوذها، وارتداد ذلك بزيادة حدة الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية في الولايات المتحدة، وتفجر التناقضات والصراعات.. وبالتالي وجدت إدارة بايدن نفسها أمام واقع جديد يفرض عليها إعادة تقييم السياسة الأميركية في المنطقة والعالم، لمصلحة اعتماد سياسات واقعية تخرج أميركا من هذا المأزق وتجنبها المزيد من الخسائر والتراجع في نفوذها وسطوتها وهيبتها، وبالتالي تحديد خسائرها.. فالاستمرار بالسياسة السابقة بات مكلفاً وستكون لها المزيد من التداعيات السلبية في غير مصلحة النفوذ الأميركي في المنطقة والعالم…
على أنّ الوقائع الجديدة التي فرضت على واشنطن إعادة النظر في سياساتها، لمصلحة اعتماد سياسات براغماتية، إنما تتجسّد بالتالي:
1 ـ اختلال في موازين في المنطقة لمصلحة محور المقاومة والتحرر، على حساب المحور الأميركي الصهيوني العربي الرجعي.
2 ـ نشوء بيئة استراتيجية جديدة مقاومة تحيط بفلسطين المحتلة وتحاصر الكيان الصهيوني وتردعه لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني مما يشكل رافداً وداعماً كبيراً غير مسبوق لمقاومة الشعب الفلسطيني ويعزز من صموده في مواجهة الهجوم الصهيوني الاحتلالي الاستيطاني.
3 ـ تنامي النفوذ والحضور الدولي الروسي الصيني، على حساب النفوذ الأميركي الغربي، وتعزيز الاتجاه الدولي الداعم إلى إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب بديلاً من نظام القطب الواحد الذي أسقط بنتيجة انتصارات سورية وصعود القوة الإيرانية والحضور الروسي العسكري الاستراتيجي في سورية، والذي أسهم في انتصاراتها مع حلفائها في محور المقاومة، وأسقط أهداف الحرب الأميركية الإرهابية.
4 ـ تراجع النفوذ الأميركي بدأ يشجع دول عديدة في المنطقة والعالم على التمرّد ضدّ الهيمنة الأميركية.
انّ التوجه الأميركي الجديد لإدارة بايدن، عبّر عنه باتجاهات عديدة، أبرزها:
*الموافقة على الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إيران، بوساطة مجموعة ال 4+1 في فيينا على أساس العودة المتزامنة للاتفاق النووي، وعلى قاعدة رفع العقوبات التي فرضت على إيران، وعدم إدخال أيّ تعديلات على الاتفاق الموقع عام 2015.. َمقابل عودة إيران عن خفض التزاماتها بالاتفاق، الأمر الذي في حال إنجاز مثل هذا الاتفاق، سيشكل انتصاراً جديداً لوجهة النظر الإيرانية.. يزيد من قوة وحضور إيران في المنطقة ويعزز من قوة قوى المقاومة…
* اضطرار “إسرائيل” إلى الانكفاء عن أيّ تدخل للتشويش على مفاوضات فيينا والتسليم بقرار واشنطن بالعودة للاتفاق النووي من دون شروط، مقابل وعود أميركية بتعويض “إسرائيل” بدعم عسكري أميركي نوعي لتعزيز منظومة الدفاع الجوي “الإسرائيلي”.
* قرار إدارة بايدن إرسال وفد رسمي أميركي يضمّ مسؤولين من وزارات الدفاع والخارجية، الى جانب مسؤولين من الاستخبارات والأمن القومي، الى دول المنطقة التي ترتبط بعلاقات استراتيجية مع أميركا لوضعها في صورة التوجه الأميركي الجديد وضرورة التكيّف معه وبناء سياساتها على أساسه.
*إقدام الرياض على ترجمة هذا التوجه الأميركي بالانفتاح على كلّ من إيران وسورية، عبر بدء حوار مع طهران لتطبيع العلاقات معها من ناحية، وإرسال وفد سعودي الى دمشق وإجراء مباحثات المسؤولين فيها لترتيب عودة العلاقات بين البلدين وإعادة فتح السفارة السعودية في العاصمة السورية من ناحية ثانية.
*هذه التطورات بدأت تنعكس أيضاً على لبنان بتوجه فرنسي عبر عنه وزير الخارجية لودريان بالعمل على دعم التوافق بين جميع الأطراف السياسية اللبنانية لتشكيل حكومة جديدة، وإبداء الامتعاض وعدم الرضا عن موقف الرئيس المكلف سعد الحريري الأمر الذي فسّر على أنه تلاقي مع الموقف السعودي بعدم دعم الحريري ورسالة واضحة بالعودة الى التسوية ووضع نهاية للمراهنة على إقصاء حزب الله وحلفائه عن السلطة التنفيذية لمصلحة تفرّد الرئيس الحريري وفريق 14 آذار بتشكيل حكومة تحت عنوان اختصاصيين مستقلين.
هذه المعطيات تؤشر إلى أنّ المنطقة بدأت الانتقال من مرحلة الى مرحلة، ومن الطبيعي أن يكون لكلّ مرحلة خطابها ولغتها… المرحلة الماضية كانت تتسم باشتداد الصراع بين المحور الأميركي الصهيوني العربي الرجعي، ومحور المقاومة.. والحكومات العربية التابعة لواشنطن كانت تنفذ الخطة الأميركية الصهيونية لكسر محور المقاومة.. وكان ذلك يترافق مع خطاب شديد العداء تعكسه الحرب الإعلامية… أما المرحلة الجديدة التي تتسم بالتهدئة والانفتاح وتطبيع العلاقات وعقد التسويات المؤقتة، فإنها تستدعي مغادرة خطاب ولغة العداء والتصعيد، لمصلحة خطاب ولغة تصالحية انفتاحية.. وهو ما عكسته المواقف السعودية الأخيرة التي أدلى بها ولي العهد محمد بن سلمان، والحوار السعودي الإيراني، والانفتاح المباشر على دمشق.. في سياسة جديدة تستبدل العمل على إقامة الأحلاف ضدّ إيران وسورية ودعم الحرب الإرهابية ضدّ سورية، وعمليات التخريب في إيران، الى مدّ الجسور والحديث عن تطبيع العلاقات مع دمشق وطهران.. ومن الطبيعي عندما تقود الرياض مسار التراجع عن خطاب التصعيد والحرب، لمصلحة البدء بالمصالحة مع دمشق وطهران ان ينعكس ذلك على كلّ الدول العربية الحليفة للسعودية.
انطلاقاً مما تقدّم، فإنّ ما يحصل من تطورات في المنطقة، إنما هو تعبير عن تكيّف سعودي أميركي مع موازين القوى الجديدة التي باتت تميل لمصلحة دول وقوى المقاومة، على قاعدة الإقرار بها والتسليم بالفشل والهزيمة أمام محور المقاومة.