عودة الروح لفلسطين وانهيار القرن العشرين
ناصر قنديل
– تميّز القرن العشرين بكونه على الصعيد الفكري والسياسي والاقتصادي قرن العقلانيّة، التي لا يرى البعض منها إلا كونها تبشيراً بالخير والعدل والسلام، توافقاً مع الشعارات التي رفعتها الثورة الفرنسية التي افتتحت عهد العقلانية في الفلسفة والسياسة والاقتصاد، لكن ما يتجاهله الكثيرون هو أن هذه العقلانية التي نهضت تحت رايتها إمبراطوريات الغرب الكبرى، تحوّلت الى إنتاج أنماط للدول والنظام السياسي والنظام الاقتصادي، والإفراط بمنح العقل تفويض التدخل لتعليب التاريخ والجغرافيا بإنتاج علب، يجري السعي لفرضها على شعوب العالم، بما يرافق فرضها من عبث إرادوي في التاريخ والجغرافيا، ولعل منطقتنا كانت خير مثال عن هذا العبث، الذي طال العالم كله، حتى أتاح انهيار الاتحاد السوفياتي لنا رؤية روسيا تستعيد حيويتها وقوتها بمصادر حضور مؤسسة على عناصر تستمدها مباشرة من التاريخ والجغرافيا، وليس من وصفة وضعيّة اسمها الشيوعية، حوّلتها قوة عظمى لكنها سلبتها الروح، فعادت الروح الناتجة عن تزاوج الروح الإمبراطورية مع المسيحية الشرقية والقومية الروسية. كما أتيح لنا ونحن نرى تركيا كدولة ذات أطماع بجوارها ومخالب تمدّها في المنطقة، تفعل ذلك بعدما تزاوجت طورانيتها السلجوقية مع خلفيتها الإمبراطورية المتمثلة بالعثمانية، بعدما تحررت من الوصفة العلمانية القسرية المهجنة التي فرضت عليها لتحمي الخاصرة الأوروبية، وأتيح لنا أن نرى إيران المتطلعة لدور فاعل في آسيا تفعل ذلك تحت راية إسلامها بخصوصيّته المؤسسة على الكربلائية الرافضة للظلم، بنكهة إمبراطورية متصالحة مع تاريخ بلاد فارس، بعدما تحرّرت من القفص الشاهنشاهي الذي وضعت بداخله، وأجهضت لأجله ثورتها مرات عديدة، لتلعب قسراً دور شرطي الخليج وسند كيان الاحتلال.
– في منطقتنا تم التلاعب بالتاريخ والجغرافيا بصورة شديدة المرضية، لدرجة غير قابلة للتصديق لمجافاتها كل ما هو طبيعي، فكيف تم تحويل مصر أم الدنيا وزعيمة العالم العربي الى دولة ضعيفة مهددة بالجوع والعطش، وتم تنصيب السعودية بقوة المال والنفط زعيماً بديلاً بلا أي مقومات موضوعية لدور الزعامة؟ وكيف تم الطغيان على دور اليمن التاريخي صاحب الفضل بنشر اللسان العربي وتأصيله، وأصل القبائل العربية وصاحب أكبر تاريخ عمراني منذ مملكة سبأ وسد مأرب، ليتحول مجرد مصدر للعمال في دول النفط الخليجي، وهو الذي يمثل أكبر كتلة بشرية في الخليج يتحوّل مجرد ملحق في السياسات والبحث عن مصادر الحياة؟ وبالعقلانية التي منحت الغرب تفويضاً من الإله الجديد، المسمى بالمصلحة، تم إطلاق الوهابية لتحل مكان الإسلام المتجذر في تاريخ الأزهر وعلماء بلاد الشام والأندلس، وبالعقلانية فرض شطب ابن خلدون وابن رشد وابن عربي من التاريخ العلمي الإنساني ومن التراث العربي، ليحل مكانهم مشعوذون يملكون فضائيات مفتوحة على مدار الساعة لتوزيع النصائح الفلكية للنجاح والتعويذات لمعالجة المرضى، لكن تبقى أكبر عملية عبث بالتاريخ والجغرافيا هي تلك التي شهدها المشرق العربيّ، حيث رسمت خرائط الكيانات الوليدة من اتفاقية سايكس بيكو، على قياس ضمان أمن وهيمنة الكيان المولود بقوة وعد بلفور، كوطن قومي لليهود الذين تمّ جلبهم بالشعوذة والتهجير والإغراء، لإقامة كيان يتحدّى كل ما يتصل بالتاريخ والجغرافيا، ليكون حارساً لأنابيب النفط وتقاطعاتها، وكل ذلك باسم العقلانية، فما يريده العقل وتسخر له الأموال والسلطات والأسلحة يمكن له أن يلغي كل حقائق التاريخ الموروث الذي تسهل شيطنته والجغرافيا العذراء التي يسهل تطويعها.
– منذ عام 1990 مع سقوط جدار برلين الذي أسس لاستعادة أوروبا وحدتها التي مزقتها العقلانية، كما أسس لاستعادة روسيا لروحها خارج صيغة الاتحاد السوفياتي العقلاني، بدا أن القرن العشرين ينهار، لكن بدا بوضوح أن هذا الانهيار لن يكتمل إلا عندما يلامس حدود المشرق العربي، وخصوصاً عندما تهتز أركان الكيان الذي يحمل أعلى مراتب الدلالة على ماهية العقلانية التي أسست للسياسة والاقتصاد والفكر في القرن العشرين، والذي قام على أعلى درجات العبث بالتاريخ والجغرافيا، ومن هنا تنبع أهمية ما يجري في فلسطين، حيث يقوم الفلسطينيون بإبداع مثير للذهول بتفكيك الكائن الخرافي فرانكشتاين المولود الأهم للعقلانية، فقد ثبت وسيثبت أكثر أن المال والسلطة والسلاح التي أنجبت هذا المسخ العلمي هي مصادر قوة خرساء وتبقى خرساء عندما ينطق التاريخ وتتحدث الجغرافيا، فيتهاوى ما بدا أنه بنيان عصيّ على الرياح، وفلسطين المنتفضة من أقصاها الى أقصاها وفي قلبها القدس وأقصاها، تقول ذلك بما لا يحتمل التأويل، وتثبت أن ما توهّمه البعض من موت القضية الفلسطينية كان مجرد سراب، وأن الهوية الجامعة التي تشعل جذوتها فلسطين والقدس بين شعوب المنطقة لا تزال تحمل سحرها وكلمة سرها، رغم كل عمليات التخريب المبرمج للهويات، وأن الإسلام لا يمكن ان يكون تكفيرياً، وأن المسيحية ترفض أن تكون صليبيّة، فلا غورو المنتقم من صلاح الدين يمثل المسيحية، ولا أبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني قادة بقر البطون وأكل الأكباد والقلوب يمثلون الإسلام. فالمنطقة اليوم تستردّ روحها من فلسطين، لتدفن الكثير الكثير من موروثات مرحلة العقلانية، فلبنان مأزوم وسورية مهدّدة والعراق تائه والأردن في خطر، ولا أمل بحلول عنوانها كذبة لبنان أولاً وسورية أولاً والعراق أولاً والأردن أولاً، بل الحل الجامع هو فلسطين أولاً، والتسليم بأن الحل الجامع هو بالعودة لمحاكاة المصير الواحد الذي عبثت به خرائط سايكس بيكو، ولو بصيغ تحفظ الخصوصيّات الناشئة.